ومن الناس من لا يذعن لهذا الشرط فيحسبون أن مراعاة اللغة في الكتابة سواء كانت نظماً أو نثراً ليست ذات شان فيقولون أن الغرض من اللغة ليس إلا التفاهم فلا ينبغي أن يعنى بها كثيراً فيجوزون لأنفسهم ارتكاب أغلاط فادحة في النحو واللغة وسائر العلوم اللغوية ناسين أن التغاضي عن الاهتمام باللغة يؤدي بهم إلى فوضى لا يرأب صدعها ولاسيما أن اللغة العربية ضوابط تقيدها وقواعد تضبطها فإذا فسد التركيب فسد المعنى وبفساد التركيب تضيع اللغة وبفساد المعنى يغلط في فهم الأفكار التي يقصد الشاعر نقلها إلى قارئ شعره فينتج إذاً أنه كلما كانت لغة الشعر ركيكة كان فناء الشعر المودع فيها سريعاً.
يتضمن الخيال في الشعر وصف الانفعال الذي يطرأ على النفس إذا أدرك صاحبها في عالم الحس شيئاً يدعو إلى الانفعال وباعثاً ينزع به إلى التأثر بحيث لا يستطاع معه إلا الالتجاء إلى الشعر للإفصاح عما يكنه الفؤاد في صور كلامية يتجلى بها الخيال ويتجسم الشعور متنقلاً من عالم الخيال إلى عالم المنظور ولا يتوخى في هذا الانتقال إلا دفع ألم وسد مطلب من مطالب النفس تتقاضى صاحبها إتمامه كما قد تقتضيه تأديتها مطالب أخرى.
ليس الشعر عملاً من الأعمال العادية التي يتكلفها الإنسان ويضطره المعاش إليها فيسعى لنيلها. الشعر ينظم لنفسه لا لغاية أخرى ولا يكون شعراً إلا إذا نظم أثر انفعال من حادث أو شعور وأما إذا نظم على سبيل التفكهة وبدون داعٍ فيكون متكلفاً فيه والنفس مقسورة على إبرازه على حين يجب أن يكون منبعثاً من النفس باختيارها وقبولها فالشاعر الذي ينظم محمولاً على النظم بتيار الرغبة في الشهرة والنزوع إلى الصيت لا يكون شعره شعراً. الشاعر كما قال بعض الأعاجم مخلوق لا مصنوع وحسبك عليه من حجة دامغة أن الشاعر المطبوع ينظم الشعر وهو صبي لا لغرض وإنما يشعر بشيء فينطق بالشعر عفواً مستخدماً ألفاظ الصبيان للتعبير عن خياله ثم يرتقي فيصبح أقدر على إظهار شعوره وينمو شعوره بنمو مركزه في الدماغ كما تنمو سائر القوى العقلية كلما تقدم الإنسان في العمر وقد تبطئ سجية الشعر في ظهورها لعلة خارجية فتتأخر إلى سن العشرين أو بعدها كما جرى لملتون الشاعر الشهير ولكنها ظهرت في أغلب الشعراء في سن الصبا وأعلى درجات الشعر وصف الطبيعة ففيه تظهر قريحة الشاعر بأعظم مظاهرها. يرى الشاعر في الوجود