من طاف في أرجائه وتجول بين معروضاته وحدق نظره في عادياته وغرائب آثاره ـ أدرك لأول وهلة عجزه عن أن يفي تلك الآثار حقها من الوصف وبيان المعنى الذي وضعت له والغرض الذي اتخذت من أجله. وإن ذلك المتحف بما حواه من الآثار الجمة التي كادت تفوق الحصر كالبحر الزاخر المتلاطم الأمواج: ففيه أدوات وهناك (خرداوات) لا يكاد يتبينها الطرف لدقتها وصغر حجمها كما أن فيه من المحاريب والتماثيل الهائلة والعمد الممدة أو الماثلة ما ينوء بالعصبة أولي القوة ويحتلاج في زحزحته من مكانه إلى تعضيد الآلات وأعمال الماكينات فكيف يتسنى للكاتب أن يودع أوصافاً وملاحظات غير محدودة في مقالة محدودة. ذات سطور معدودة سئل بعض الوعاظ عن معنى قوله تعالى {والسماء ذات الحبك} فأحاب بقوله: السماء التي نشاهدها فوق رؤوسنا وأما الحبك فهو شيء لا نعرفه لا نحن ولا أنتم. وهكذا أراني عاملاً في الاعتذار لأديب كلفني وصف المتحف وآثاره: فأقول: المتحف بناء جليل بجوار قصر النيل وأما العاديات التي فيه فشيء لا أعرفه ولا يتيسر لي وصفه: المتحف المصري مكتبة تاريخ ومعجم هيروغليف ومعرض صناعة وهيكل عبادة. والباحث في عادياته يلزمه أن يعرف ـ عدا عما ذكر ـ التاريخ الطبيعي والكيمياء والهندسة وأن يكون له ذوق خاص في الفنون الجميلة كالنحت والنقش والتصوير وإلا كان شأنه أن يدخل فيرى كل شيء ثم يخرج فلا يبقى في ذهنه شيء اللهم إلا وقفة على رأس رعمسيس الثاني تنتزع المرء من عالم الشهادة فغلى عالم الغيب وتقذفه فيها أمواج اليقين على صخور الريب.
إذا دلنا النيل بصراحة على أن الأمة المصرية القديمة أمة زراعية بطبيعتها فإن هذا المتحف يدلنا أكثر صراحة أنها كانت أيضاً أمة صناعية ضربت في إتقان الصنائع وأحكامها بسهم وافر.
أما الكهانة والديانة والعبادة وسر الروح والموت والحساب والعقاب فهذا يكاد ينطق به كل أثر تقع عينيك عليه في هذا المتحف.
وقد راعت الحكومة النظير في البناء الذي شيدته لتلك الآثار. فكان فخماً مفخماً مثلها: بل