اطلعت في المقتبس على ترجمتكم للأستاذ جول سيمون الفرنسي من فلاسفة هذا القرن فأعجبني تشبيهكم إياه ببعض رجال السياسة في الإسلام ممن أجمعوا بين العلم والعمل أو ممن ترقوا إلى الوزارة من طريق القلم. وقد ذكرتم من هذه الطبقة طائفة صالحة مثل ابن سينا والصاحب بن عباد والقاضي الفاضل ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم ولو استقصيتم لذكرتم في هذه الجملة ابن الأثير وابن العميد بالمشرق وابن خلدون وأبا بكر بن عمار وابن زمرك في المغرب وكثيراً من الرؤساء وإذا وصل الدور إلى زماننا هذا فجودت باشا وأحمد وفيق باشا بل كوجك سعيد باشا الذي تولى رئاسة الوزراء مراراً وهو من مخرجي صناعة القلم بل من مخرجي كتابة الجرائد السيارة. وشاء مترجم إفراد هذه الطبقة بالترجمة لملأت تراجمها المجلدات الكبار من القديم والحديث وهي طبقة تمتاز على غيرها بكونها جمعت بين الإدارة والعلم وقرنت بين الحكم والحكم وإن سياستها في الأغلب مبنية على قواعد العلم مستنيرة بضياء الحكمة ومن سعادة العمران أن يكون الحاكم حكيماً. ولا أريد بذلك تعطيل فضيلة من لم يعرجوا إلى المناصب العالية من طرق الأقلام فإن لهم فضائلهم وإن إدارة الرجال مواهب والعلم علمان غريزي ومكتسب وقد يغني المكتسب عن الغريزي في هذه الأمور لأن الإدارة ترجع إلى العمل والتجربة أكثر مما ترجع إلى العلم والحفظ كما أنه ليس كل من درس وتعلم وركض طرف القلم صالحاً لأن يتولى سياسة الملك وإدارة الجمهور ويخوض غمرات المشاكل لما ذكرنا من كون الإدارة موهبة فطرية تزداد بالتجربة وتزكو بالعمل وإن كل امرئ ميسرٌ لما خلق له. على أنه لو تبارى العالم العامل المجرب والعامل المجرب بدون علم في مضمار إدارة لكان أولهما هو السابق وكان مذهبه هو الأسلم لأنه يضم إلى نور عقله نتائج قرائح الناس ويبني في عمله على أساس ويضيف إلى منطقه المخلوق معه المنطق المدون الذي حفظه عن الكتب فيجمع بين موهبتي النفس والدرس وينظم بين حاشيتي المطبوع والمسموع فيكون طريقه آمن من الخطر وأقرب إلى الهدى ويبقى مكانه في صدور الناس أهيب من مكان المجرب بدون علم ولا أستاذ. وشأن هذين الصنفين أحدهما مع الآخر شأن الطبيب القانوني حائز الشهادة مع المجرب الذي اختبر بعض المسائل بنفسه فربما كان المجرب أنفع علاجاً من القانوني ولكن لا يحمل ذلك على ثقة ولا يبعث على طمأنينة وتكون مهارته محصورة في الأمور