لم يترك العرب أيام حضارتهم فرعاً من فروع العلوم النافعة في قيام مجتمعهم إلا وتوفر أفراد منهم عليه. وعلم الجغرافيا هو أحد تلك العلوم ولم يكن لهم به عهد في الجاهلية كالشعر والرواية والأدب والخطب وإذا ذكروا بعض أسماء البلدان المجاورة لهم فإنما يذكرونها بالعرض لا تشعر بمعرفة ولا تنمّ عن اشتغال.
وكان أول الكتب التي نقلوها إلى لسانهم كتب بطليموس اليوناني في الجغرافيا ومن أول الأعمال الجغرافية العلمية التي تمت على يد علمائهم هو أن المأمون أمر محمد بن موسى بن شاكر وأخويه أحمد والحسن بتحقيق طول خط نصف البار لمعرفة محيط الكرة الأرضية فقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار ثم أعادوا المقياس ثانياً في وطآت الكوفة فثبتت لديهم كروية الأرض وعرفوا محيطها.
قال ابن خلكان في ترجمة بني شاكر: وكانت لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا أنفسهم في شأنها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم واحتضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. ومما اختصوا به في ملة الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه ولكنه لم يثقل أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله إلا هم وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى طرفا الحبل فإذا مسخنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعي وقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطآت الكوفة فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم ويركن إلى معرفتهم بهذه