الصناعة وخرجوا إلى سنجار وجاؤا إلى الصحراء المذكورة فوقفوا في موضع منها فأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات. وضربوا في ذلك الموضع وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على استواء الأرض من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول ولم يزل ذلك دأبهم حتى انتهوا إلى موضع أخذوا منه ارتفاع القطب المذكور فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل فعلموا أن كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب ومشوا على الاستقامة وعملوا كما عملوا في جهة الشمال من نصب الأوتاد وشد الحبال حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك.
وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر لهم حقية ذلك ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً وكل برج ثلاثون درجة لتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة فضربوا عدد درج الفلك في ستة وستين ميلاً أي التي هي حصة كل درجة فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وهذا محقق لا شك فيه فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار فتوافق الحسابان فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك.
هذا ما قاله صاحب وفيات الأعيان بنصه وليس العمل لإثبات كروية الأرض هو العلم الوحيد الذي قام به المأمون فقد قال المسعودي صاحب مروج الذهب في كتابه التنبيه والإشراف وهو مما ألفه بفسطاط مصر سنة ٣٤٥ للهجرة: ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس وتفسير جغرافيا قطع الأرض وفي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة