بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها فعندها كثرت المذاهب والآراء ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية أي بين الدين القائم بالتسليم وبين الفلسفة المبنية على البرهان.
وظلت حال العلم الديني تابعة لمجرى السياسة إن جاء عاقل من الأمراء والملوك يكل أمره لجهابذة من المحققين ينظرون فيه وهم مؤتمنون مأمونون وإذا ولي رقاب الناس جاهل ينزل نفسه في كل المنازل فيتولى من الخلق أمور دنياهم ودينهم ويقرب إليه كل من يتابعه على أهوائه ولا ينكر عليه فعلاته والعقلاء بمعزل لا ينطقون إلا كارهين وربما تدرعوا الخمول وآثروا الانقطاع على الدخول في المجتمع لامحاضه النصح وتخليصه من المفاسد الطارئة عليه. نعم أن التاريخ لم يخل من وجود عقلاء في كل دور من أدواره ولكن قوتهم ضئيلة لا تنفع وصوتهم خريد لا يسمع إذا نسبتهم لأولئك المنافقين في خدمة الآمرين والناهين وقد قل عددهم كثيراً في هذه الديار خصوصاً بعد الدولتين النورية والصلاحية وصار العلم أشبه بتقاليد ورسوم منه بعلم وعمل ومناطق ومفاهيم.
وما فتئت العادات يتخيلها بعضهم من الدين ويدسونها فيه وللجهل الكلمة النافذة في الهيئة الاجتماعية إلى أن كان القرن التاسع والعاشر وما يليهما من قرون الهجرة وهي من العصور المظلمة في تاريخ الإسلام حقيقة فعندئذ قل المميز والمفكر وبطلت علوم الحكمة جملة واحدة وصار من يتعاطاها في نفسه وبين خاصته كمن يأتي أمراً إداً ويخون دينه وأمته وبطل النظر في الأصول وتحتم على كل عقل أن لا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين. فأصبح بذلك يعد العالم كل العالم من يحفظ من هذه الفروع أكثر. اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون فإنك لا تراها تتعدى الأقوال والآراء وأهل كل جيل يقدسون قول من سلفهم ولو ببضع سنين نعم إنك لو أنصفت لا تكاد ترى لهم تأليفاً تقرأ فيه نور العقل والخلاص من التقليد البحت ولقد أتت أيام في معظم الأصقاع الإسلامية حرم النظر فيها حتى في الكتاب والسنة وعد الناظر فيهما محاولاً للخروج عن سنن الجماعة فإذا خالف فرد ما ألفوه أهانوه ومن قاوم بفكره سجنوه أو نفوه وشردوه وذا خافوا بأسه قتلوه وجعلوه عبرة ومثلاً للآخرين.
تأصلت الأوهام فعدت من أقدس القربات وسار الناس مع تيار الجهل وتقديس أقوال أدعياء