ولكن لما كان سببه قراعهم للكتائب دل على إقدامهم وشجاعتهم وكثرة مباشرتهم الضراب بأنفسهم فصار مدحاً لهم وصح القول بأن الشاعر أكد مدحه بما يشبه الذم لإتيانه بتلك الصفة المذمومة المقرونة بما يصرفها إلى المدح ولا يخفى حسن هذا الأسلوب البديع على من نهل من حياضه العربية وتذوق بلاغتها بخلاف استشهادهم بقول القائل لا عيب في زيد سوى الكرم وبقول القال:
ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم
فليسا في شيء من المطابقة لاسم النوع كما يظهر لي ولا يصح عدهما مع الشاهد الأول من نوع واحد وإنما أداهم إلى هذا الخلط تساهلهم في التعريف كما قدمنا لأن قولهم نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح شامل لهذين الضربين من الاستشهاد أما في الثاني فظاهر لأن الكرم والمعطف اللدن والخد المنعم المستثناة من صفة الذم المنفية كلها صفات مدح وأما في الأول فلأن الصفة المستثناة وهي فلول السيوف وإن تكن صفة ذم فقد حولت إلى صفة مدح أيضاً فصح بذلك عندهم الاستشهاد بهما على نوع واحد لشمول التعريف لهما مع أن الفرق بين الضربين لا يخفى عل ذي بصيرة. ولزيادة التوضيح نقول أن الضرب الثاني من الاستشهاد ليس فيه من تأكيد المدح بما يشبه الذم سوى الأسلوب الذي صيغت به شواهده فقط لأن ذكر الاستثناء بعد نفي صفة الذم موهم لإثبات شيءٍ ما من الذم فلما استثنى القائل صفة مدح محضة كان موهماً للنوع بأسلوب وإن لم يأت به على حقيقته.
والذي أراه في حل هذا الإشكال أن يقسم هذا النوع إلى نوعين يسمى بتأكيد المدح بما يشبه الذم ويقال في تعريفه أنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة ذم مقرونة بما يصرفها إلى المدح أو استثناء صفة مدح محولة من ذم أو غير ذلك مما يؤدي معناه وقد ظهر لي أن القرينة الصارفة قد تكون لفظية كما في بيت النابغة الذبياني لأن قوله من قراع الكتائب قرينة دالة على عدم إرادة الذم أو تكون معنوية كما يف قول القائل:
ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنيسان الأحبة والوطن
فإن جعلهم ضيوفهم ينسون أحبتهم وأوطانهم عيب ولكن لما كان سببه كثرة ألطافهم وإكرامهم إياهم صار مدحاً وهو غير مصرح به بل مفهوم من سياق البيت.
(النوع الثاني) يسمى بإيهام تأكيد المدح بما يشبه الذم ويقسم إلى قسمين قسم يقال في