المتوحش إذا لم يتخير رديء الأطعمة فهو لا يعرف الطبخ ولا أعني بذلك أنه لا يجيد طبخ طعامه بل أنه لا يعرف كيف ينضجه ولا شك أنه لم يعهد إلى الآن قوم مهما انحطوا في دركات التقهقر يجهلون إيقاد النار. ولكن من القبائل من لا تحسن الانتفاع بها وهي توقد جذوة على الدوام لتظل النار عندها بلا انقطاع. ولا عهد لهم بأواني الطبخ لما ثبت من أن بعضهم يجهلون صنع الفخار فيلقون حجراً محمى في الماء إذا أرادوا تسخينه وهم على جانب من الكسل بحيث يؤثرون أن يأكلوا معظم المآكل النيئة كالديدان والهوام والأسماك ويقضمون بفكوكهم القوية الجذوع القاسية والأثمار الليفية.
قال المترفه بيريللا سافارين الفرنسوي مؤلف كتاب فسيولوجيا الذوق (١٧٥٥ ـ ١٨٢٦) قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت. وهذه الحكمة يتيسر لعلماء الإنسان أن يطبقوا عليها أبحاثهم وذلك أن طعامه قلما يكون صالحاً للأكل وأن للمتوحش فكوكاً ضخمة مستطيلة وأضراساً غليظة وأعصاباً للمضغ قوية. وعندما يتحضر تتحسن أطعمته وتخف قوة شدقيه وأسنانه.
يقول المسيو حنا فينو أنه ليس بين الأجناس المتمدنة من البشر فروق كثيرة وعلى العكس في الأجناس المتوحشة فإن بينها وبين المتمدنة اختلافاً كثيراً في الصور الظاهرة والحواس الباطنة وظن بعض علماء الإنسان بأن هذه الاختلافات هي على إطلاقها على أنها مما يمكن تعديله وبذلك يتسنى لنا تعليلها. ولقد كانت أول الاكتشافات في أول عهد الحضارة هي اكتشافات الطبخ فقد رفع القدماء إلى مصاف الأرباب الأذكياء الذين علموهم زراعة الأرض وتدجين الحيوان وصنع الخبز وتخمير المشروبات.
إفراط المتمدنين في المآكل الأطعمة التي يتقزز منها والتر يرغب عنها:
قلنا أن المرء اليوم يكاد يكون في مأمن من الجوع ولكن الشر الذي عجز الوجود أن يسومه إياه أصبح خاضعاً له بواسطة الحروب مختاراً. فإذا حوصرت مدينة يعمد الجياع من أهلها إلى تناول الأطعمة القذةر كالكلاب والقطط وجرذان المجاري وسائر أصناف الحيوان ويذكرون أن الجلد والعشب والخشب لها بعض الخصائص في التغذية وللضرورة أحكام.
تجد مائدة الفقير في الأوقات المعتادة مغشاة بالأطعمة التي هي أكثر تغذية والطف طعوماً