هو إلا أمر طبيعي لا بد من وقوعه بين أي شعب أسفَّ للانحطاط في العلم وأخلد للجمود في الدين.
مر على أوربا من أدوار الظلم والظلمات ما سجل لنا التاريخ من آثارها في الأمم الغربية ما يصح أن يكون عبرة همجية وذكرى سوء. وذلك في الغالب يرجع إلى عوامل ثلاثة كانت علة العلل لما نجم عنه من سقوط وصعود: الملوك ورجال الكنيسة والنبلاء. أما النبلاء: فلم يؤثر عنهم في الأعم الأغلب من حالهم سوى أنهم كانوا يسعون وراء تأييد نفوذهم ونيل مشتهايتهم وملذوذاتهم بأية طريقة كانت سواءٌ دعا سعيهم هذا إلى إهراق دماءِ الشعب وابتزاز أمواله واكتساح الأراضي الشاسعة من مستعمراته أو إلى مقاومة الملوك إذا آسوا منهم مالا ينطبق على ما ينزعون إليه من حب السلطة والجار الذي كان دينهم وديدنهم حتى أتيح لهم نفوذ قوي كان لهم عوناً في عامة ما تذرعوا به من الذرائع لحفظ سلطتهم وإحرازهم ميزةً على غيرهم من بني البشر حتى في المحاكم ومسائل القضاء.
وأما الملوك: فإن استئثارهم في الملك وإغراقهم في البذخ والترف خملهم على مبالغتهم في الإرهاق والعسف وإتيانهم كل امرء منكر لمطاردة قادة الأفكار من رجال الأمة فكان الملك يذيب أيامه ولياليه التي كان يجب أن يقضيها فيما يعود على الأمة والوطن بالمصلحة العامة في اختراع صنوف الحيل والدسائس تارة وفي أحلام الموبقات مرة أخرى فمن طنطنة أقداح إلى إزاقة ابتسامات بين وصيف وبغا وكثيراً ما كانت الحرب بالباب والسلطان في لعب.
ومما ساعدهم على عملهم هذا غفلة الشعب واتخاذهم من اعتقاده بالملوك والقياصرة والأقيال والأكاسرة إنهم آلهة الأرض والآمرون الناهون في العالمين آله صماء لتنفيذ آمالهم وأعمالهم. فكان الشعب مغلول اليد والفكر واللسان ليس له من الأمر شي إلا الطاعة العمياء. وفوق هذا كله فإنه كان يرى في هذه الطاعة خيراً يصيبه أو ثواباً يناله. ولم يكن من الشعب الغافل إلا أن وسمهم بالألقاب السماوية ووصفهم بعامة صفات الربوبية.
وأما رجال الكنيسة: فكانوا يبالغون أيضاً حفظاً لسلطتهم واستبقاء لعزيز جبروتهم في اضطهاد العلم والعلماء. وتم لهم ذلك بما أسدلوه على الأبصار من السجف المبرقشة التي هي ليست سوى خيالات خداع وختل ونفاق وتلاعب قالوا عنها أنها الدين وليست منه في