متع طرفك قليلاً في سير الإنسانية تجد أن السعي كان في كل دور من أدوارها شرطاً في حياتها وأداة في نجاحها فالبسعي والذكاء والنشاط تغلب الإنسان على الحيوان واستعبد قوى الطبيعة فالتمدن عامة وخصوصاً التمدن الأوربي العظيم هو ابن سعي الإنسان ففي السعي الحرية كما جاء في بعض الأناشيد. السعي يضمن لمن ينصرف إليه استقلالاً ووقاراً يتعذر نيلهما على العطل ولا يطمح إليهما. فهو للمعوز ضرورة مطلقة وفرض مادي مشروع كما هو فرض اجتماعي وللغني نافع له من حيث أنه ينتفع من مال حصل عليه غيره وأورثوه إياه والواجب عليه في هذا المعنى كالواجب على الفقير.
وليس عندي من النعوت ما يوصف به من لا يعمل ولا يسعى. أي فضل في الحياة وإعجاب بها عند من لا يود أن يساعد المجتمع بعمله أقل مساعدة وأن يجاري في العمل الاجتماعي والوطني. والغني في سعة من أن يسعى ولا يجب عليه السعي أكثر من غيره لأن الأسباب لديه على العمل أعظم ولأنه غني عما يكتسب به ضرورياته فينصرف إلى المطالب العالية ويسهر على المصلحة العامة. إلا وأن السعي رب الفضيلة والبطالة أم كل الرذائل كما جاء في المثل. ومن ألف الفراغ يصبح وجوده عدماً ضاراً بالمجتمع وبنفسه ولا يمكن الامتناع عن كل عمل فمن لا يعمل الخير يعمل الشر لا محالة فبالسعي الحياة وبالبطالة تفلج الأعضاء وتموت. حديد لا يستعمل يصدأ ودماغ وأعضاء تعفى من العمل تضعف وتسقم. فمن يشغلهم السعي ويعيشون عيش العاملين يسعدون بحفظ قواهم وصحتهم ولا يتأثرون بالمظاهر الخارجية والمناظر التي تدهم الكسل العطل. لا يأتون كل صباح إلى ميزان الحرارة تفكهة ولا ينظرون أحوال الجو ولا يحدقون في المرآة إلى لون ألسنتهم بل يعيشون ويعملون ويبددون ويحرقون الجراثيم المضنية التي تسطو على أجسادهم وعقولهم فهم سالمون طبيعة وأدباً لأنهم عاملون.
السعي يدعو إلى تحمل أعباء الحياة وشقائها القليل بنشاط ويمنح حسن الخلق والسرور وعلى العكس في البطالة فإنها تدعو إلى الافتكار في أقل ما يصادفه المرء من العوائق وتعظمها كما تعظم الآلام والأوجاع فتولد الحزن وسوء الخلق والسويداء وهذا المرض من أمراض النفس وهو مبعث أمراض الجسد.