يكون رضيعاً يصرخ ويقيء بين ذراعي مرضعه. والثاني حين يصبح تلميذاً يحمل قمطره ووجهه يفيض بشراً وسناءً في الصباح يقفز كطير البجع ويتظلم من الذهاب إلى المدرسة. والثالث دور الهوى وهو الزمن الذي يكون فيه عاشقاً يتنهد تنهدات حارة تحكي زفرات الأفران وهو ينشد أغاني مطربة يخاطب بها لحاظ مالكة فؤاده. والدور الرابع وهو دور الشجاعة والإقدام حين يكون جندياً يقسم الإيمانات ولحيته تشبه لحية النمر: يغار على الشرف ويقتحم الغارات بخفة باحثاً عما يجديه فخاراً ولو في فوهات المدافع. هذا الفخار الذي أراه كجبب الماء لا يدوم ولا يلبث. والخامس وهو الدور الذي يجلس فيه على سرير الأحكام ويقضي بين الناس وبطنه ممتلئ مستدير وبصره حاد ولحيته مقصوصة قصاً مخصوصاً: عقله راجح وفكره ملم بكثير من الحوادث واعٍ لما صدر فيها من الأحكام. والسادس يبدأ باكتسائه الأردية الرفيعة القماش الواسعة الحجم ووضعه المنظار أمام عينيه وتعليقه كيساً بجانبه وقد غدت جواربه التي كان يلبسها وقت الصغر غير ملائمة لرجليه لكبر حجمهما وصوته ضئيلاً متلعثماً يحاكي صوت الأطفال.
أما المنظر الأخير الذي ينتهي به هذا التاريخ المحزن الغريب فهو الطفولة الثانية يعني الشيخوخة والخبل المتناهي يتبعه فقد السنان والبصر والذوق بل وتضعضع جميع الجسد وقال كذلك على لسان ماكبيث:
انطفئ يا ذا السراج انطفئ ... فإن الحياة خيال يسير
وقال أيضاً: تأمل كثيراً وتكلم قليلاً ولا تشرع في تحقيق رأي يعجز عقلك دونه. عامل الناس بالعرف وراع واجبات الصداقة وضم من صادقتهم وتحققت إخلاصهم إلى قلبك وعلقهم بأطواق من الحديد ولاتضع كل إنسان حديث العهد بالمعرفة بك موضعاً علياً فتعلق بيدك الأكدار. حاذر من التشاجر مع أحد وإذا قدر لك هذا فاجتهد في إرهاب خصمك. أعر كل إنسان سمعك ولا تدع صوتك يقرع إلاّ آذان فئة قليلة من الناس.
وقال يوحنا رسكن: خلق الإنسان لثلاثة دواع وهي العمل والأسى (الحزن) والسرور وكل من هذه الثلاثة له درجتان: وضيعة ورفيعة. فهناك عمل وضيع وعمل رفيع. وهناك حزن هين وآخر شديد. وكذاك فرح قليل وسرور مفرط فيلزمك أن لا تنأى عن الجمع بين هذي الثلاث ظناً منك أنه يتأتى لك أن تحيا بدونها فليست هناك نفس خلت من التشبث بها