أما الثاني: فهو الحكيم الإمام العلامة الفاضل الشيخ موفق الدين أبو بصر أسعد ابن أبي الفتح الياس بن جرجس المطران المتوفى سنة ٥٨٧ فقد كان سيد الحكماء وأوحد العلماء سافر إلى بلاد الروم لإتقان الأصول التي يعتمد عليها في علم النصارى ومذاهبهم. ثم ذهب إلى العراق متشبهاً بموفق الدين المسلم وترك علوم الدين المسيحي واشتغل بعلم الطب على أمين الدولة ابن التلميذ (الذي سنورد شيئاً من أخباره فيما بعد) ثم رجع إلى دمشق وخدم بصناعة الطب السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي فقربه وأدناه وكان عنده رفيع المنزلة عظيم الجاه بحيث كان يقضي حوائج الناس ولا يفارق السلطان في سفر ولا في حضر ولذلك كان الطبيب يدل بمكانته لديه ويتكبر حتى على ملوك المسلمين بل على نفس صلاح الدين وكان صلاح الدين قد عرفها عنه ورضيها منه.
ومن أغرب ما تضمنته بطون الدفاتر في هذا الموضوع أن السلطان صلاح الدين بينا كان يحارب الإفرنج ويرد غوائلهم عن سواحل الإسلام كان يستعين بأهل الذمة في مدافعتهم ويستخدمهم في تطبيب جنوده وتقويتهم على رد أعدائه وأعدائهم. وقد فهم أهل الوطن الواحد في عصره المجيد أنهم لا بقاء لهم ولا جاه إلا بالتفاف حول راية واحدة هي راية الوطن. ومما يتعلق بعجب موفق الدين وإدلاله على صلاح الدين أنه كان معه في بعض غزواته وكانت عادة صلاح الدين في وقت حروبه أن ينصب له خيمة حمراء وكذلك دهليزها وشقتها ليتميز عن سائر العسكر وهذا من أبلغ ما يكون من الشهامة في الحروب فاتفق أنه ركب ذات يوم ليتفقد الجيش فإذا بخيمة تشابه خيمته كل الشبه فبقي متأملاً لها وسأل لمن هي؟ فأخبر أنها لابن المطران الطبيب فقال السلطان: والله لقد عرفت هذا من حماقة ابن المطران. وضحك. ثم قال: فلو جاء رسول من الإفرنج ومر بهذه الخيمة أفلا يخطئ ويظنها لي. بل لو جاء باطني للفتك بي أفلا يجوز أن يتخطاني إلى طبيبي. فإذا كان ولا بد فلا أقل من تغيير مستراحها. ثم أمر به فأزيل. فلما رأى موفق الذين صعب عليه الأمر وامتنع عن خدمة السلطان أياماً حتى استرضاه السلطان ووهب له مالاً. وكان في خدمة السلطان طبيب نصراني آخر يقال له أبو الفرج فاحتاج إلى تزويج بناته وتجهيزهن فطلب من صلاح الدين أن يطلق له ما يستعين به على ذلك، ولما كان السلطان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا حتى أنه عند موته لم يترك في خزانته (بشهادة المؤرخ