ولله در بني أيوب يرد الله مضاجعهم وطيب ثراهم. فإنهم في هذا الباب خير قدوة لملوك الزمان وخصوصاً ملوك الإسلام. فقد أخذ الحديث برقاب بعضه وجرنا إلى ذكر صاحب مصر وعم الملك المعظم المذكور وأعني به الملك الكامل بن الملك العادل ابن أيوب المتوفى سنة ٦٣٥. وفد عليه أبو العباس ابن دحية من أكابر علماء المسلمين بالأندلس فاتخذه الملك أستاذاً له في العلم والأدب وجعل له من الإكرام والإجلال غاية ليس وراءها مطلب. وبالغ في تعظيمه وتبجيله حتى كان يسوي له بنفسه مداسه حين يقوم. وهو هو الذي خشي بأسه الصليبيون فتقربوا إليه وهادنوه وخطب وده الإمبراطور فريدريك بعد أن أسر القديس سان لوي وأعاده مكرماً معظماً. وكان هذا الملك يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من فضلاء المسلمين والنصارى واليهود ويشاركهم في مباحثهم كأنه واحد منهم. ومما يؤثر عنه أنه لما تولى سلطنة مصر خفض من ضرائبها بما يقارب الثلث فأفاد بذلك رعيته المسلمين والأقباط على السواء.
نرجع إلى صاحبنا موفق الدين ونقول أنه أسلم وحسن إسلامه وأن صلاح الدين زوجه إحدى حظايا داره المقربة لدى زوجته خوند خاتون فأعطتها الكثير من حليها وذخائرها ومولتها وخولتها. فرتبت أمور موفق الدين وهذبت أحواله وحسنت زيه وجملت ظاهره وباطنه. . وصار له ذكر سام في الدولة وتنافس الأمراء في الإنعام عليه وتوقت حاله حتى كاد يكون وزيراً ولكنه ما زال يتعهد زملاؤه فكان يقدمهم ويتوسط في إدرار الأرزاق عليهم. وكانت له دار بدمشق على غاية من الحسن في العمارة والتجميل وفيها بركة يبرز منها الماء من أنابيب ذهب على غاية ما يكون من حسن الصنعة وفيها مكتبة تحتوي على نحو عشرة آلاف مجلد عدا ما استنسخه. فقد كانت له عناية بالغة باستنساخ الكتب وتحريرها وكان في خدمته ثلاثة يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية المتصلة. وقد كتب بخطه كتباً كثيرة في نهاية حسن الخط والصحة والإعراب. وصحح بنفسه أكثر الكتب التي عنده وأتقن تحريرها. وذلك كله غير الكتب التي كان يهبها لتلاميذه فضلاً عن الإحسان إليهم والاعتناء بأمرهم. وكان أجل تلاميذه الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم ابن علي المسلم ومن أخص أصدقائه الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني.