مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها.
كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها.
نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.
ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية