يحسن ويقف على ما يستثقل قراءته حتى أتى على الكتاب فقال له كيف رأيت ما قرأت عليك فقال أرى عقل صانع هذا الكلام أكثر من كلامه ففطن له ولم يعاوده إلى أن وقف به على تنور مسحور ثم قذف بالكتاب في النار وهذا رجل في عقله فضلة وفيه تمييز.
وإنما البلية فيمن إذا بينت له سوءَ نظمه واختياره ووقفته على سخافة لفظه هجرك وعاداك فاجعل هذا الأصل ميزاناً تزن به مذهبك في رسائلك وبلاغتك ولا تخاطبن خاصاً بكلام عام ولا عاماً بكلام خاص فمتى خاطبت أحداً بغير ما يشاكله فقد أجريت الكلام غير مجراه وكشفته وقصدك بالكلام الشريف للرجل تنبيه لقدر كلامك ورفع لدرجته قال:
فلم أمدحه تفخيماً لشعري ... ولكني مدحت بك المديحا
فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها وتجنب ما قدرت الألفاظ الوحشية وارتفع عن الألفاظ السخيفة واقتضب كلاماً بين الكلامين.
الجاحظ: ما رأيت قوماً أمثل طريقة في البلاغة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشياً ولا ساقطاً سوقياً: وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلالم ما لا يحتاج إلى كلام وأحسنه ما لم يكن بالبدوي المغرب ولا القروي المخدج الذي صحت مبانيه وحسنت معانيه ودار على السن القائلين وخف على آذان السامعين ويزداد المحكوم له بالبلاغة من إذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها وظهرت من معادنها وتدرب من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب.
حدثنا صديق للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمده مرة بعد أخرى فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة فقال له العتابي. لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. أملى يزيد بن عبد الله أخو ديناراً على كاتب له وأعجل عليه الإملال فتعثر قلم الكاتب عن تقييد إملاله فقال متحرشاً: اكتب يا حمار فقال الكاتب: أصلح الله الأمير إنه لما هطلت شآبيب الكلام وتدافقت سيوله على حرف القلم كلَّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده فليتذكر الأمير عذري فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد. وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه كان أسهل ولوجاً في الأسماع وأشد اتصالاً بالقلوب وأخف على الأفواه ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجماً للفظٍ مونق شريف ومعبراً بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه