هذا الموضع لأدل به عَلَى حكمة القوم وحزمهم في الأمور وعلمهم بمكايد الحروب قالوا لما التقى الفريقان ثم تصافوا للقتال أرسل أخشنوار ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أي يبرز فيما بين الصفين ليكمله فخرج إليه فقال أخشنوار قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك ولعمري لئن كنا احتللنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأْناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديراً أن تكون من سوء مكافأَتنا عليك وعَلَى من معك ونقض العهد والميثاق الذي أكدت عَلَى نفسك أعظم أنفاً وأشد امتعاضاً مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم مشرفون عَلَى الهلكة وحقنا دماءكم وبنا عَلَى سفكها قدرة وإنا لم نجبرك عَلَى ما شرطت لنا بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين فانظر إليهما أشد عاراً وأقبح سماعا إن طلب رجل أمراً فلم يتح له وسلك سبيلاً فلم يظفر فيها ببغية وأستمكن منه عدوه عَلَى حال جهد منه وضيقة ممن معه فمن عليهم وأطلقهم عَلَى شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر لمكروه القضآء واستحيا من الغدر والنكث أم أن يقال نقض العهد وختر بالميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم وما أجدني أشك في أنهم وأكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم عَلَى غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفاً أنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فالي النار فأنا أذكرك الله الذي جعلته عَلَى نفسك كفيلاً ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات وأدعو إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا عَلَى ذلك في كل ما أحبوا وكرهوا فاحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره ومع ذلك إنك لست عَلَى ثقة من الظفر بنا والبلوغ لبغيتك فينا وإنما تلتمس منا أمراً نلتمس منك مثله وتبادي عدواً لعله يمنح النصر عليك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأَي أن تكون من الأعداء كما لا يجب المضار إليهم أن تكون عَلَى أيدي الأولياء ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من