الجدارية واسعة جداً. وهذا يدل على نقص القوة العاقلة والشعور والميل إلى الحنق والنزق. وقد نظر غاروفالو أحد مشاهير علماء الجزاء في إيطاليا في الجناة فلم يجد واحداً منهم خلواً من إمارات مادية وأدبية تحكي الإنسان الأول.
وما ظهر من الحقائق الجديدة من أمثال هذا الاستقراء والاستقصاء هو موضوع الرأي العام في أوربا في شأن تنظيم الجزاء حتى نشأ عن هذه التجارب الطبية علم جديد يسمى علم الجرائم البشرية_آنتروبولوجي كريميتل وكان للإيطاليين اليد الطولى في خدمة هذا الفن الجليل.
نال المنفلوطي من المدنية الغربية في كلامه عليها ما لا أرضاه له كل من درسها حق دراستها وبحث فيه بحث العالم المتجرد عن المؤثرات دينية كانت أم قومية لا بحث خطيب أو أديب أو شاعر أو واعظ مرشد داعٍ إلى وطنية أو أخلاق.
وورد في قوله هذا كلام ثلة من حملة أقلام ممن لهم من أخلاقهم عصبية قومية أو نعرة شرقية وسواء عندي كان قولهم هذا بدافع الوطنية أو الدعوى إلى إحياء آثار مجد أو تمازجها لوثة من لوثات الفساد فينشأ ناشئهم وقد انحل من وطنيته كما انحل من دينه وأدخل الفساد أخلاقه كما أصاب عاده ومنازعه.
وإني أشاركه في كل ما جاء في تالك المقالة إلا في قوله: إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد وقرطبة وثيبة وفينيقية لا بباريس ورومة وسويسرا ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنسرد عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء المشرق وكلماته لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن النصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجيتون وواشنطون ونلسون وبلوشر (بلوخر)، وفي وقائع القادسية وأفريقية والحروب الصليبية ما يغنينا عن وقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين.
هذا ما كتبه المنفلوطي إلى ابناء القرن العشرين من المشارقة وهو يريد أن يربو تربية مدنية عملية يصدون بها غارات الجانب التي يشنونها عليهم من كل صوب وأوب وهذا هو السلاح الذي يحمله الشبيبة المصرية على أن يتسلحوا به ليقاتلوا أعداء الوطنية ويخرجوا من ديارهم من ابتزوا أموالهم وغلبوهم على أمرهم وكل يوم يريشونهم بسهام التعصب