معبراً عن شواعره وواصفاً عجائب الكون ولاسيما الأفلاك. ومفسراً غرائب الاجتماع وحاضاً على الزهد والاعتزال. وممعناً في فلسفة الوجود. ومتشكياً من مناوأة الأيام ومساورة المصائب. وعلى الجملة فإنه أبلغ شاعر قام في الإسلام ذاهباً في شعره مذهب الفلسفة وحرية الفكر والنظر إلى الكون بعين العقل وكان مولعاً بمطالعة المتنبي وتحدي أفكاره فنظم على منواله غير متقيد بالصناعة اللفظية.
وأتقن العلوم ابن عشرين سنة فصار مرجع الأدباء ومحط رحال البلغاء فتخرج عليه كثير من علماء عصره من أشهرهم أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي. وأبو زكريا الخطيب التبريزي شارح الحماسة.
وقد رحل في تفقد المكاتب والتوسع بالمعارف إلى طرابلس الشام المشهورة بمكتبتها العظيمة إذ ذاك وسار إلى اللاذقية فنزل ديراً فيها وسمع أحد الهبان بعض العلوم واطلع على مذهبي اليهود والمسيحيين وكذلك قصد دمشق وحلب وبغداد وغيرها.
وكان يرتزق من وقف كان يحصل منه ثلاثين درهماً في العام ينفق نصفها على من يخدمه فعورض في رزقه فذهب إلى بغداد متظلماً مما عارضه ٣٩٨هـ (١٠٠٧م) ثم عاد إليها ثانية سنة ٣٩٩هـ (١٠٠٨م) وأقام فيها سنة وسبعة أشهر فتفقد مكاتبها وتعرف بعلمائها ودرس عليه كثير منهم قال أبو القاسم التنوخي: لما ورد المعري بغداد قرأت عليه شعره وذكر أنه دخل عليه وهو في بغداد علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه شيئاً من النحو فقال له الربعي: ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد إليه. ويروى أنه دخل يوماً مجلس المرتضى فعثر بإنسان فقال به: من هذا الكلب فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً وله أخبار كثيرة لا محل لاستيفائها.
ومن أشعاره في غربته يحن إلى وطنه قوله:
قيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني الدهر إليها منذ ليالي
فهل فيك من ماءِ المعرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال
وعاد أبو العلاء من بغداد إلى المعرة سنة ٤٠٠هـ (١٠٠٩م) ولزم بيته وشرع في التصنيف والتدريس فتقاطر إليه الأدباء من كل صوب مقتبسين آثاره وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الاقتدار فانقطع إلى خدمة الآداب وسمى نفسه رهين المحبسين للزوم بيته