قلب صفحات التاريخ لا تجد بلاداً اجتاحتها صروف الدهر ونابتها خطوب الزمان وكانت ميدان احتكاك المصالح فيها مثل بلاد الشرق. ولنضرب صفحاً عن العقد الكثيرة التي لم تحل فيها به كألبانيا ومكدونية والعربية ولننعم النظر فيما هو أقرب إلينا أي سورية وفلسطين ففيهما من مصالح الدول ما لا يوجد في غيرها من الولايات وبياناً لذلك نقول:
كان نفوذ الدول الأوربية في سورية قليل جداً قبل أواسط القرن الغابر. وأبرمت معاهدة لندن سنة ١٨٤٠ فانفتح باب واسع لذلك النفوذ وكانت الجمعيات الدينية في ذلك العهد تنقل إلى الشرق مدنية الغربيين فتحينت فرصة ملائمة وغمرت سورية وفلسطين بعمالها المتسترين برداء التبشير الديني. وكانت فرنسا السابقة في هذا المضمار فغمرت بلادنا بالمعاهد الخيرية والتهذيبية بمهمة جمعية أخوية المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة ولا عجب فقد وثقت علائقها مع الشرق منذ القرن السادس عشر بحمايتها فيه كاثوليك أوربا جمعاء وزكان مبشروها ينزلون ربوع سورية بالرغم مما قام في سبيلهم من المصاعب والمشقات. ولم تغفل عن تأييد مصالحها في الشرق بكل الوسائل الفعالة عَلَى اختلاف الأحوال حتى في أيام حكومة الكونفاسيون والدريكتوار والاضطرابات الداخلية قائمة عَلَى قدم وساق ولم يحد نابليون عن سياسة فرنسا التقليدية في الشرق فأسرع بعد إبرام الصلح مع الدولة العلية سنة ١٨٠٢ إلى تجديد الامتيازات والمحالفات القديمة وأمر سفيره في الآستانة أن يبسط حمايته عَلَى كل كاثوليك سورية وفلسطين ولاسيما قوافل الزوار القاصدين إلى الأماكن المقدسة.
ولما كان يقتضي لهذا الأمر مبالغ وافرة من المال أخذت الحكومة الإفرنسية تمد عمالها بالمال المطلوب. ولا نعلم ما كان ينفق في سبيل ذلك قبل الإمبراطورية الثانية عَلَى أن الحكومة أدخلت في ميزانية وزارة خارجيتها كمية تنفق سنوياً عَلَى الأعمال الخيرية والتهذيبية تبلغ قيمتها ٣٠٠٠٠٠ فرنك فأصبحت سنة ١٨٨٣ خمسمائة ألف وسنة ١٨٩٢ سبعمائة ألف وسنة ١٩٠٠ ثمانمائة ألف.
عَلَى أن الحكومة لا تشتغل وحدها في إنشاء المدارس وتنظيمها فهناك جمعيات أخرى قامت للغاية نفسها. ففي سنة ١٨٥٦ أسست جمعية أعمال مدارس الشرق ' ' وأخذت تجمع مبالغ وافرة وتوزعها عَلَى المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها