التوظف فلا يعود في وسعهم خدمة أمتهم وبلادهم الخدمة المتوقعة منهم وهم في إبان قوتهم وشرخ شبابهم ودور كهولتهم. والموظفون في معظم الأمم كالآلات بيد رؤسائهم لا يهمهم إلا رضاهم ويعدون ما وراء ذلك من الواجبات الاجتماعية.
كان يعد المرحوم من أخلص أصدقاء فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده ونصيره في آرائه الإصلاحية سراً لا جهراً. ولما لغط بعضهم في مسألة الفتوى التي أفتى بها مفتي الديار المصرية المشار إليه جواباً على سؤال ورد إليه من الترنسفال في جواز لبس المسلم القبعات وضرب البقر بالبلط والذبح بدون تسمية وجواز صلاة الشافعية خلف الحنفية كان الفقيد في مقدمة من أيدوا الشيخ المفتي في فتواه وألف رسالة (إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) التي جمع بها من نصوص كتب المذاهب الأربعة ما دحض به آراء المخالفين المشاغبين فكانت من الأدلة على بعد غوره في الاطلاع على المذاهب وقد عرض ما جمعه على غير واحد من علماء كل مذهب فأجازوها فعزيت إلى جماعة مبهمين. وقيل أنه كتب في بعض الصحف اليومية مقالات لم تعز إليه لغرض اقتضى ذلك.
وعلى الجملة فقد كان الفقيد على شرط العلماء الأقدمين من الإلمام بأحوال زمانه فهو علمَ علم وحجة حكم وفهم ولو أتيح له أن يهتم بالعموميات لواد الانتفاع به. ومن أخلاقه أنه كان رزيناً وقوراً لين الجانب فكان إذا اجتمع بأكبر أعدائه يحسن لقاءه والتأدب معه ولم يجد له المنتقدون ما يتطرقون منه إلى انتقاده بما يشينه إلا ما كان من قبوله شفاعات أصدقائه مدفوعاً إلى قضاء حوائجهم بعامل المروءة العظيمة الناشئة عن شدة ثقته بهم واعتقاده الصدق في أقوالهم وما يقصدون إليه. فلا عجب بعد هذا إذا عد فقده خسارة كبرى على القضاء والعلم في هذه الديار. رحمه الله.