ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق فيجددون لها أمر دينها ويستطيبون الأذي في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى الحد الذي رسمه الشارع وأصحابه والتابعون والأئمة الهاديون المهديون ومن هؤلاء المجددين نابغة دمشق فقيدنا العزيز السيد جمال الدين القاسمي الذي يعرفه قراء هذه المجلة بما نشره في سنيها الماضية من آثار علمه وأدبه فقد قضى حياة طيبة ولم يعقه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره وتنغيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو نمهم مصر ولا عصر خصوصا في بلاد يستمد منها كل شيء من ولاة أمرها.
نشأ السيد القاسمي من بيت فضل وفضيلة وكان والده وجده من المعروفين بالأدب ومكارم الأخلاق وهذا من النوادر في عصر لا يكبر رجاله في العيون إلا على مقدار عدهم في صفوف أهل الرسم وفي دور قل أن ينجب فيه ولد لنجيب فصم أو تصامم منذ أوائل سن التحصيل عن كل ما يقف عثرة في سبيل الطالب فكان منذ وعى على نفسه يعمل على تهذيبها ولا يكاد يمضي عليه يوم لم يستفد منه فائدة ولم يقيد شاردة فظهرت عليه مخايل النبوغ ولما يبلغ العشرين فما بالك به وقد نيف على الأربعين وقارب أن يتم العقد الخمسين.
جماع الأسباب التي نجح بها فقيدنا طهارة نفسه من المطامع الأشعبية وشغفه بالعلم للذته ونفعه في إنارة القلوب واعتقاد أنه منج في الدنيا والآخرة فهو لم يجعل الدين سلما إلى الدنيا وجسرا مؤقتا يجتاز عليه لحيازة مظهر خلاب والتصدر في المجالس بفاخر الهندام وبراق الثياب بل فرغ قلبه ووقته للعمل النافع فبورك له بساعات عمره القصير ويا للأسف. ولو عددنا ما كتبه من مصنفاته وقسناه بالنسبة لهذا العصر الذي أضحت فيه بضاعة العلم مزجاة بائرة لما قل عن اللحاق بالمكثرين من التأليف في المتأخرين أمثال العيوطي وابن السبكي وإضرابهما مع ملاحظة ما بين العصور والبيئات من الفوارق.
تذرع الفقيد بعامة ذرائع النفع لهذه الأمة فكان إماما في تآلفه الوفيرة إماما في دروسه الكثيرة إماما في محرابه ومنبره ومصلاه رأسا في مضاء العزيمة رأسا في العفة وهذه الصفة هي السر الأعظم الذي دار عليه محور نبوغه لأنه لو صانع طمعا في حطام الدنيا