تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء وأحفظه أن يختار وقت البحر فان النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا الدماغ من أكثر الأبخرة والأدخنة وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم. وخالف ابن أبي الصابغ في اختيار وقت السحر وجنح إلى اختيار وسط الليل اخذ من قول أبي تمام في قصيدته البائية:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
مفسرا للدجى بوسط الليل محتجا لذلك بأنه حينئذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة ونالت قسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء فيكون الذهن حينئذ صحيحا والصدر منشرحا والبدن نشيطا والقلب ساكنا بخلاف وقت السحر فأنه وإن كان فيه يرق النسيم وينهضهم الغذاء إلا إنه يكون قد انتبه فيه أكثر الحيوانات الناطق وغيره ويرتفع معظم الأصوات ويجري الكثير من الحركات وينقشع بعض الظلماء بطلائع أوائل الضوء وبما انهضم عن بعض الناس الغذاء فتحركت الشهوة لاختلاف ما انهضم منه وخرج من فضلاته فكان ذلك داعيا إلى شغل الخاطر وباعثا على انصراف الهمم إلى تدبير الحدث الحاضر فيتقسم الفكر ويتذبذب القلب ويتفرق جميع الهم بخلاف وسط الليل فانه خال من جميع ذلك.
وقال في صفاء المكان: وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا من المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا واثقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير غم ولا كدر فان انضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر. وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتتاه.
ويطول بنا الكلام إذا أردنا نقتبس فصولا من الكتاب لبيان مزيته بين الأسفار الرائقة وقد ذل تجويد المؤلف لتأليفه على مبلغه من العلم ووفرة ما كان لديه من كتب الأمهات في أوائل القرن التاسع للهجرة في زمن نسميه دور الفتور ولكن مصر لم تخل في عامة أدوارها أيام بؤسها كأيام نعيمها من إجلاء حكماء تنبتهم تربة النيل وقد لا يشتهرون إلا بعد