لحكم الدهر المبدل لعزها القديم بالهوان فتألم قلبي لمشاهدة ذلك وفاضت دموعي أسفاً عليه. وسألت أحد الحمالين أن يدلني على السلم الذي يفضي إليه فأجاب أن السلالم منهدمة فلا طريق إلى الصعود إلا ما كان في أعلى الجانب الغربي الجنوبي فإنه تحفظ فيه الحمول الخفيفة المجلوبة من الخارج. فانصرفت وقلبي يكاد ينفطر مثل جدرانه حزناً على ما شاهدته من خراب هذه المدرسة التي كانت في سالف عهدها ملجأً كريماً للعلم وكعبة يطوف بها طالبو الحكمة ودار الفخر للأمة العربية.
وطفت بها من الخارج وقست بخطواتي طولها فوجدته ١٢٠متراً في عرض ستين تقريباً هذا إذا لم نحسب الحمام الجسيم الذي هو في الجنوب الشرقي منها وقد ألحق بالجمرك حديثاً وكذلك الجامع الذي هو في الشمال الغربي منها قد فصلته اليوم عنها سوق تقضي إلى الجسر فإذا أضفنا ذلك والمظنون أنهما كانا في القديم ملحقين بها زادت جسامة هذا البناء الفخيم.
أما النظامية فلا يرى لها اليوم أثر في بغداد والذي يشاهد من قاعدة المنارة غير مختص بها فيما اعتقد إذ لا يناسب ثخنه ما نسمعه عن فخامة ذلك البناء بل هو فيما أظن بقية جامع صغير قد بني على أنقاض تلك واندرس. ثم عدت إلى داري فنظمت قصيدتي هذه:
وقفت على المستنصرية باكياً ... ربوعاً بها للعلم أمست خواليا
وقفت بها أبكي قديم حياتها ... وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بناتها ... وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيت بها عهداً مضى في عراصها ... كريماً فليت العهد لم يك ماضيا
بكيت بها المدفون في حجراتها ... من العلم حتى بل دمعي ردائيا
أكفكف بالأيدي بوادر أدمعي ... ويأبين إلا أن يفضن جواريا
وطأطأت رأسي في ذراها تواضعاً ... وحييت بالتسليم منها المغانيا
وسرحت أنظاري بها فوجدتها ... بناء لتشييد المعارف عاليا
بناءً فخيماً عز للعلم مثله ... فقلت كذا فليبن من كان بانيا
وألفيت قسماً قد تداعى جداره ... وقسماً على ما كان من قبل باقيا
تهب رياح الصيف في حجراتها ... فتلبسها ثوباً من النقع هاييا