للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يأخذ من نفسك بخط وتدبر فيما تريد بضع دقائق واشرع في التكلم جهاراً جائياً ذاهباً في غرفتك. تكلم على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك ولا تهتم بحالة جملك ولا لصحتها من النحو الصرف ودوام بدون انقطاع ودع كلماتك تتساقط منك ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالاً جيداً أو رديئاً فتقارب بينها وتتشوش الأفكار فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة أو لا تنتهي أبداً وأنت لا يأخذك قلق من ذلك بل ظل مثابراً أيضاً وتخط العوائق واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها ولا تبتئس قط لما لا تذكره حافظتك ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ أو لضعف حججك وتفاهة براهينك وثابر ثم ثابر واذهب أدراجك لا تلوي على شيء وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطعه.

وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة فإن هذا الجهد الذي يبدو لك هزواً بانحلال السياق والسباق بين أجزاءه ربما عبث بنشاطك وخيب من أملك فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادي الرأي. لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئاً إذا اقتصر عليه. ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطتها لنفسك ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام فإنك تصلح منطقك بالتدرج والكلام الذي تدعوه يأتيك عفواً أكثر من قبل ولا تستعصى عليك الجمل وتليز قناة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على سلوب حسن وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غبّ سراها فتصل بعد بفضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية. لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال فكثرة مادة الكلام حسن ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تفاهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال. إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه هي ثمرة التدرج والنظام العلمي باديء بدء وبدونه لا رباط ولا سياق.

ثم شبه الخطيب بالمثل في حركاته ولكن تمثيلاً حسناً بحسن استعمال حركاته وسكناته لا تأخذه رهبة ولا جزع قال والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه ويقوم بينهم خطيباً كما لو كان بين غرباء وهو يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد حتى إذا حصلت له