حظها في خلوته وجلوته فهو متنسك متعبد وطروب مغرد مولع بتداول الأفكار وتسقط الأخبار ولوعه بتجويد الألحان وتوقيع الأوتار جمع بين زاد الآخرة ومقومات الحياة في الدنيا فذهب شيخاً معمراً شبع من دنياه وعمل لأخراه بما علمه مولاه.
لم يشبه عصر الشيخ الأول هذا العصر في وفرة أنواره وسعة محيطه وظهور الحقائق فيه جلية فجاء منه في أول أمره رجل يقرب من الحشوية المظلمة عقولهم اللهم إلا في ذكائه وتحصيله فلما انتشرت كتب الأئمة رجع عن كثير مما كان يقول به في الأربعين والخمسين من عمره شأن العالم العاقل. ولقد كان يقول لصديقه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي ياجمال أحمد الله على أن انتبهت وأنت في سعة من عمرك ولحيتك سوداء فتتمكن من الاستمتاع بعقلك ويتسع لك الوقت لنشر آثار فضلك أما أنا فلم يعد لي وقت طويل في الحياة وهاقد ابيضت لحيتي وشاب قذالي فانتبهت لأشياء كنت من القائلين بها وقد كبرت سني ووهن العظم مني فالآمال فيك وبأمثالك من الشببة والكهول محصورة.
للفقيد عشر رسائل وكتب منها في الموضوعات الدينية والصوفية ومنها في الأبحاث التاريخية الأدبية وأهمها كتاب حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر وهو في نحو ١٥٠٠ صفحة وقد تكلمنا عليه في مكان آخر من هذا الجزء والمؤلف على ما ظهر لنا من صداقتنا معه أعظم في اجتماعاته منه في كتبه لأن معظمها قد كتبه بسرعة قبل أن يفتح عليه فيما اشتهر عنه في آخر عمره وكم من عالم رزق الحظ فيما يكتب ولم يرزقه فيما يخطب وبالعكس ورب شاعر لا ينثر وناثر لا ينظم.
نُكب المرحوم بفقد ولديه الوحيدين في آخر حياته فزهده ذلك في العالم وزحزحه عن التأليف والتدريس وعزفت نفسه عن عزف المعازف والاستزادة من أسباب المعارف وشغل أجزل الله توابه بأمر مبكياته عن مفرحاته ومنشطاته.
والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما محت أواخره