تأمل هذا المنقول في التقية من كلام ذاك الإمام المجتهد وهو نموذج من تأليف من عمل بعلمه ولم يكتم حقيقةً إرضاء لخاطر ولم يتق رثاء وخوفاً وطمعاً. ذاك كلام أبي عبد الله محمد المرتضى من أكابر علماء القرن التاسع أنفت نفسه من التعصب لعادات الآباء والمشايخ فتجانف طرق أسلافه وحكّم الإنصاف في أقوال فرق الإسلام ولولا عراقته في الشرف وبُعد غوره في العلم وإخلاصه في أقواله وأعماله لاضطهد وأوذي ونال من صنوف العذاب ألواناً. أقدم هذا الإقدام مؤثراً أن ينصرف عنه جانب من حطام الدنيا مثل تولي الإمارة عند الزيدية وشرطها عندهم أن يتقلدها أعلم الناس وأشرفهم وكان هو جامعاً لهذين الشرطين وهو من أسرة تولت زعامة الناس فرأى الدعوة إلى الحق خيراً من الإمامة والإمارة فردّ على أبناء مذهبه الأصلي في كتاب ضخم يقع في زهاء ألف ورقة وسماه العواصم والقواصم وخلّف مصنفات غيرها دلت على سعة فضله وعقله وأنه ممن أحسنوا استعمال التقية ولم يتأذوا بالعلانية ورخصت أعمارهم في عيونهم فأفادوا واستفادوا. وكتابه إيثار الحق المنقول عنه آنفاً رأيه في التقية أكبر دليل على ما توصف به.
وإذا قابلنا بني كلام هذا الإمام وكلام من اشتهر أكثر من شهرته لا نعتم أن نشعر بفرق بين المشارب والعقول ولكلٍّ ذوقه وعقله. فمن مشاهير المؤلفين والفلاسفة الفخر الرازي وكل من قرأ مصنفاته ير فيها عقلاً كبيراً ومادة واسعة. ومع هذا وجد له أهل البصر ما ينتقد في حياته العلمية.
درّس الرازي والتفت حوله التلاميذ والأساتذة فكان إذا ركب يمشي معه ثلثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ونال الحظوة من أمراء عصره والحظة عند شعوبه وتعاظم حتى على الملوك ومع هذا مال الرازي إلى مذهب الجبر القاضي بأن الإنسان كالريشة في الهواء لا عمل هل ولا تدبير ينفعه وأن القضاء والقدر يدوران به على مرادهما وهو المذهب الذي عشش اعتقاده في صدور معظم المسلمين فكان من دواعي انحطاطهم وإن لم يشعر ظاهر الشريعة ولا المأثور عن الأمناء عليها في الصدر الأول بشيء من هذا المعنى وإنما رأى الرازي الخير