وإعجاب الناس في مصر بالغناء شديد وليس هذا الإعجاب لجمال في الشعر الذي يتغنى به ولكنه لبراعة المغني في التوقيع وحذقه في الضرب على الأوتار فإنه لا يلبث أحدهم أن يرفع صوته حتى تخال أنه يدق على صنج فؤادك أو ينقر على أوتار قلبك.
وأهل مصر وغيرهم في الطرب بغنائهم سواء لأنه لا تزال فيه روح الغناء القديم الذي كان يتغنى به الكهنة في الهياكل والمعابد ولا يبعد أن تكون تلك الأنغام أقرب الأنغام إلى النفس وأدناها من الجنان.
ولقد يسأم المصري غناء الإفرنج وهم يرفعون أصواتهم حتى تكاد تبلغ عنان السماء ثم يخفضونها حتى توشك أن تكون أخفى من دبيب النمل وهم بين هذا وذاك يلبسونها ثوب الرقة والخشونة فتكون وسطاً بين الصياح والنهيق. ولكنه لا يسأم الغناء المصري وهو يرفل في حلل تلك الأنغام البديعة التي تأخذ بمجامع القلوب وتستهوي الأفئدة قبل الأسماع.
وليس المصريون أمة حرب فيتغنون بالشعر الحماسي الذي يستفز النفوس ويهيج العواطف ويحرك الشجاعة الكامنة في الأفئدة ولسنا أمة بحارة فنتغنى بذكر الصرصر العاتية والبرق الخاطف والرعد القاصف والرياح العواصف ولسنا أمة عاملة نتغنى بذكر البخار والكهرباء والنار والماء بل نحن أمة مكسال آمنة مخلدة إلى الراحة خيراتها كثيرة وأمواهها غزيرة، نساؤنا طرب، وحياتنا لهو ولعب فلم لا نتغنى منشدين