للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكتابَ إلاَّ مِنْ بعدِ ما جاءَهُم العلمُ بغْياً بيْنَهُم} [آل عمران: ١٩] وأراد بالعلم ما بيَّنه (١) لهم في الكتاب، ولذلك وصفَه بالمجيء.

ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} إلى قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: ١٩ - ٢٠].

وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات} [آل عمران: ١٠٥] ولذلك خصَّ الله الذين أُوتوا الكتاب بالاختلاف بعد العلم بأنهم اختلفوا بغياً بينهم بخلاف من لم يعرف كتاباً، فإن اختلافهم قبل العلم، وقبل البَيِّنات، يوضحه قوله تعالى: {وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: ١٥]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: ١٦٥] وأمثال ذلك.

الوجه الثالث: الحجة الجملية البرهانية، وذلك أنه لم يَرِدْ في كتاب الله، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماع أهل السنة أنَّ عذاب أهل النار هو مراد الله الأول، ولا أنه مرادٌ لنفسه، وإنما الذي ورد في هذه الأصول أن العذاب مراد لله (٢) متوقِّفٌ على مشيئته، وأنه تعالى غير مغلوبٍ عليه، ولا على أسبابه، وأن له فيه الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وأنه تعالى يعلم ما لا يعلم، وأنه لا يُطلعُنا على الغيب، ومن اعترف بحكمة الله تعالى في الجملة، كيف يلزمه نفيها إذا أقرَّ بقُصور علمه عن معرفة تعيُّنِها كما أقرَّت بذلك الملائكة حيث قالت: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا}.

بل قال الله تعالى في المتشابه: {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ} فبطل وهم المعتزلة أن مذهب أهل السنة يؤدي إلى أن الله تعالى يريد الشر لنفسه، فلا مانع عندهم من أن العذاب مرادٌ لحكمةٍ بالغة خفيَّة هي تأويل المتشابه المحجوب عن الخلق، لا لكونه شرّاً، وتلك الحكمة هي المسماة بالمراد الأول


(١) في (ش): يبينه.
(٢) في (ش): الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>