للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نقصٍ لذاته، ولا يُمكنُ أن يحسُنَ العجز لوجه حكمةٍ خفي، وهذه رتبة يرتفع عنها أكثر الوُعَّاظ من العباد العجزة، كيف القادر على كل شيء الذي إذا أراد إيجاد أعظم المخلوقات، فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف يعجز عن تقليب قلوب عباده؟! وقد صح أنه يقلِّبُها كيف شاء، حتى استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقليب قلبه الكريم، وكان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (١).

فيا عجباه كيف أمكن تقليب خير القلوب إلى الشر الذي هو ضِدُّ الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها، ولا يمكن تقليبها إلى الفطرة، وأيُّ عقل أو سمع دل على هذا دلالة قاطعة، أو أشار إليها إشارةً خفية، فالله المستعان.

وما أشبه اعتذار المعتزلة للرب بتعجيزه تعالى عن ذلك باعتذار القدرية للرب بتجهيله عز وجل عما يقولون عُلُوَّاً كبيراً، وكان يلزم المعتزلة مثل مقال القدرية، نعوذ بالله من الخذلان.

وثانيهما: إيجاب إرادة حصول ما علم الله أنه لا يحصُلُ علماً قاطعاً، ومن جَوَّز هذا على الرب الحكيم لزمه أن يجوز عليه الأماني التي أجمع المسلمون على أنها لا تجوز على الله تعالى لأنها عبارةٌ عن إرادة ما يعلم أنه لا يكون. وقد أجمع العقلاء على ذمِّ التشاغُلِ بها، وسمَّوها بضائع الحمقى.

وقال الحكيم:

مَنْ كان مَرْعَى عَزْمِه وهُمُومِه ... رَوْضَ الأماني لم يَزَلْ مَهْزُولا (٢)

بل هذا أقبحُ من الأماني، لأن المتمني قد عصمه عقله من الطمع في حصول مُناه، فكيف إذا تضرَّر بسببه سواه؟! وحصل بسببه نقيض رجواه؟! وكان ذلك كله معلوماً له سبحانه وتعالى فأصبحوا كما قيل:


(١) تقدم تخريجه ٢/ ٢٧١ - ٢٧٢.
(٢) هو لأبي تمام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي. وهو في " ديوانه " و" زهر الأكم " لليوسي ٣/ ١٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>