أما الأول: فظاهر السقوط، لأنه يؤدي إلى ألاَّ يقع منهم فعلٌ ألبتة، لا خير ولا شر، ولأنهم يعتذرون في عدم وقوع الخير بعدم الداعي إليه مع أن القصد بهذا قطع عذرهم هذا خُلْفٌ، ولأن سلب الدواعي يستلزم سلبَ العلوم والظنون، وذلك يستلزم سلب العقول، وحصول الجنون، وذلك أعظم الأعذار، والقصد قطعها، هذا خُلف أيضاً.
وأما الثاني: وهو خلق دواعي الخير محضةً من غير معارضة، فالكلام فيه في وجوه:
أحدها: أنه مقدورٌ لله تعالى، وهذا إجماع المسلمين.
وثانيها: أن المكلفين معه يبقون مختارين مستحقين للثناء، وهذا كذلك.
وثالثها: أنه يحسُنُ إثابتُهم مع ذلك لبقاء الاختيار، كما يحسن الثناء عليهم لذلك، وهذا مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وقد مرَّ تقريره في الإرادة.
ورابعها: -وهو المقصود هنا- أن الله تعالى إنما ترك ذلك لِحِكَمٍ لا يعلم جميعها وتفاصيلها إلاَّ هو، وهو تأويل المتشابه، وسرُّ القدر.
وقد تقدم كلام الزمخشري في ذلك في تفسير قوله تعالى:{هُوَ الذي خَلَقَكُم فمِنْكُم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ}[التغابن: ٢]، وفي قوله تعالى للملائكة:{إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ}[البقرة: ٣٠]، وسيأتي أن جهل موسى عليه السلام بتأويل فعل الخَضِر يدل على جهل الراسخين بتأويل فعل الله تعالى. وتقدم قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة: إن الله قادرٌ على خلق الكفار على بِنْيِة المعصومين، وإنما لم يخلقهم كذلك لحكمة استأثر بعلمها، فرجع أهل البدعة إلى ما بدأ به أهل السنة بعد السفر البعيد كما قال شيخُ الاعتزال ابن أبي الحديد: