وقد تقدم القولُ في أن كل ما أراد الله طيَّه من الحكم والأسرار لم يتم لأحد الاطلاع عليه، وكان الجهل به من جملة قيد الله السابق، وأمره النافذ على رغم الخلائق، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومن الناس من يسعى فيما لا ينفعه، بل فيما يضره من العلوم والأعمال كما قال تعالى:{ويتعلمون ما يَضُرُّهم ولا يَنفَعُهُم}[البقرة: ١٠٢].
وهذه المسألة هي التي ألجأت غلاة الأشعرية إلى القول بنفي الحكمة، وسيأتي في الكلام على مسألة الأطفال إيضاح بطلان قولهم بالضرورتين العقلية والشرعية، والمبالغة في إبطال قوله، وهي التي ألجأت ابن تيمية وأسلافه وأتباعه إلى القول بفناء النار (١) والتأليف في ذلك. وأشار الغزالي إلى نُصرة قولهم في " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " في شرح الرحمن الرحيم، وجوّد الاحتجاج لهم في ذلك، وفي بعض مباحثه في ذلك نظر ليس هذا موضع ذكره.
والأولى بالسني الوقوف على ما وقف الله عليه ملائكته الكرام حيث أجاب علبهم أنه يعلم ما لا يعلمون، وترك التكلف فيما لم يؤمر به، والتأدب بمثل قوله تعالى:{ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ}[الإسراء: ٣٦]، والحذر من الشذوذ عن الجماعة، والنفرة من كل بدعة وشناعة، فإن نازعته النفس، فليتنبه على
(١) وهذا مما عُدَّ في جملة اجتهاداته التي أخطأ فيها خطأ مبيناً، وتابعه عليها تلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وقد تولَّى الرد عليهما غير واحد من الأئمة، منهم العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة (٧٥٦ هـ) في رسالته " الاعتبار ببقاء الجنة والنار "، وعلامة اليمن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة (١١٨٢) هـ في كتابه " رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " وكلاهما مطبوع، فارجع إليهما، فإنهما غاية في النفاسة، وسيرد عند المؤلف التنبيه بأن الإمام الذهبي له رد على شيخ الإسلام في هذه المسألة، ولكنني لم أقف عليه إلى الآن، وهو -رحمه الله وإن كان يُحب ابن تيمية ويظهر محاسنه، وينشر فضائله، ويُشنع على خصومه، ويدافع عنه- مخالف له في مسائل أصلية وفرعية كما صرح بذلك في ترجمته في " السير ".