للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعدَ إذْ هَدَيتَنا} [آل عمران: ٨].

وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {واصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ} [النحل: ١٢٧] لأنه قصر إمكان المأمور به على إعانة الله تعالى، وحصره فيها.

قال: وسواءٌ كانت الهداية بنفسها المسؤولة بالدعاء أو الثبات عليها، فلا شك أن العبد لو كان مستقلاًّ بإنشائها بقدرته مستنداً بالثبات عليها، كان مستغنياً عن هذه الاستعانة، ثم الله سبحانه يمُنُّ على من يشاء من عباده بأن هَدَاهُمْ إلى الإيمان، وعند الخصم هو محمولٌ على خلق القدرة، وهي صالحة للضدين جميعاً على السواء، وذلك يبطل قضية الامتنان بالهداية، قال الله تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عليكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ} [الحجرات: ١٧].

وتحقيق ذلك من غير حَيْدٍ عن الإنصاف أن العبد كما يُحِسُّ من نفسه التمكن من الفعل يُحِسُّ الافتقار والاحتياج إلى مُعِينٍ في كل ما يتصرف ويجد في استطاعة، وفِقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويَذَر، ويُقَدِّمُ ويؤخر من تصرفات فِكْرِهِ نظراً واستدلالاً، ومن حركات لسانه قِيلاً وقالاً، ومن تردُّدَات يديه يميناً وشمالاً، فيُحِسُّ الاقتدار على النظر، ولا يُحِسُّ الاقتدار على عدم العلم بعد حصول النظر، فإنه لو أراد أن لا يحصل العلم لم يتمكن منه، ويُحِسُّ من نفسه تحريك لسانه بالحروف، ولو أراد أن يُبَدِّلَ المخارج ويغير الأصوات حَسَّ (١) ذلك، ويُحِسُّ تحريك يده وأَنْمَلَتِه، ولو أراد تحريك جزءٍ واحدٍ من غير تحريك (٢) الرِّباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك.

وعند الخصم القدرة صالحةٌ للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين، والعبد مستقلٌّ بالإيجاد والاختراع وليس لله من هذه الأفعال إلاَّ خلق القدرة، واشتراط النية وهو من أضعف ما يُتصور، والحق في المسألة تسليم التمكن والتأنِّي والاستطاعة على الفعل على وجهٍ يُنْسَبُ إلى العبد معه وجهٌ من الفعل


(١) في (ش): من.
(٢) " تحريك " لم ترد في (ش).

<<  <  ج: ص:  >  >>