الثاني فَضْلٌ عظيم من الله الرحمن الرحيم، فكيف يُجْعَلان معاً من الله وبينهما أبعد مما بين السماء والأرض من التفاوت، وأين ذِكْرُ العبد الحقير الذليل من ذكر الرب العزيز الجليل، ولو كانا معاً من الله لاستويا قَدراً، إذ لم يكن أحدهما عبادةً، والآخر ثواباً.
ومن ذلك قوله تعالى:{فَلَمّا زَاغُوا أزاغَ الله قُلُوبَهم}[الصف: ٥] فالآية واضحة الدلالة على أن إزاغة قلوبهم من الله عقوبةٌ مُستَحَقَّةٌ بمحض العدل الحق على ما تقدم منهم من الزَّيْغِ الأول الواقع بتخلية الله بينهم وبين نفوسهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما بيَّنه الله في كتابه الكريم.
فمن شفاه ذلك وكفاه لَحِقَ بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين، ومن تَوَغَّل في الدقائق الكلامية، وخالجه ما خالجهم من تركيب شكوكٍ على نصوص كتاب الله تعالى مقتضاها التَّطَلُّع إلى حكمة الله الخفيَّة في ذلك الابتلاء، فقد طلب أن يُعْطَى أكثر مما أُعطِيَ رسل الله ملائكته عليهم السلام، فقالت الرسل:{لا عِلْمَ لَنا}[المائدة: ١٠٩]، وقالت الملائكة:{لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا}[البقرة: ٣٢].
والجواب عليه الحق أن الغاية القصوى في هذا المقام أنه لا يعلم تأويل ذلك إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فلا حرج في وِجدان النكارة في القلب، إنما الحرج في الإخلاد إليها، واعتقاد الجاهل أن ما لا يعلمه فإنه يبعُدُ أن يعلمه الله، وهذا ليس ينبغي منه اعتقاده في عالمٍ آخر من أبناء جنسه، كيف إلاَّ رب العالمين علاَّم الغيوب؟!
فإذا تقرَّر هذا، فكيف يُتَصَوَّرُ في مثل هذا أن يكون الذنب والعقوبة معاً من الله، ولو كان كذلك لنصَّ على ذلك في كتبه الكريمة، فإن الملك العزيز الذي لا يخاف من أحدٍ ولا يَتَّقيه، ولو شاء لخلق الخلق في النار ابتداءً ولم يحتج إلى تمكينٍ وتكليفٍ وكتبٍ ورسلٍ وبَعْثٍ وحُكمٍ وعدلٍ وشهود عدولٍ وموازين، فحين عدل عن ذلك إلى هذا علمنا أن مراده أن يوصف بالعدل، وأن لا يُنْسَبَ