للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه ما عابه على عباده من قبائحهم وفضائحهم، والعلمُ بذلك ضروريٌّ لمن هو سيلم العقل، ونسبة الذنب والعقوبة عليه إلى الله سبحانه يُضَادُّ مراده بهذه الأمور كلها، فتأمَّل ذلك.

ومن ذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: ٥٤] وإنما قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ليُبَيِّنَ أنه صَدَرَ منه على وجهٍ حَسَنٍ، وهو مجازاتهم بخلاف مَكْرِهمُ القبيح الذي لا أقبح منه، حيث وضعُوه موضع الشكر الواجب عليهم، وإنما سمَّى فعله مكراً على جهة المقابلة كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠] وهو أيضاً من هذا القبيل.

وأما قوله: {أفَأَمِنُوا مَكْرَ الله} [الأعراف: ٩٩] فسماه مكراً استعارةً لأخذ العبد من حيث لا يَشْعُرُ كقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: ٤٤] وهذا جزاء مكرهم وإن لم يتقدم ذكره لما عُلِمَ وتقرَّر من سنة الله في جزاء الشيء بمثله في قوله: {ومَكَرُوا ومَكَرَ الله} وفي ما لا يُحصَى، فهو من المطابَقَةِ في المعنى، ولذلك قيَّد المكر المذموم بوصف الشيء حيث قال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: ٤٣] فتقرر بهذه الآية أن المكر في نفسه غيرُ قبيحٍ لذاته، بل لوقوعه على وجهٍ قبيح، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد.

وفي " صحاح " الجوهري (١) ما يدل على ذلك، فإنه فَسَّرَ المكر بالخديعة، ثم فَسَّرَ الخديعة في بابها (٢) بأن يريد به المكروه من حيث لا يعلم، وهذا معنى صحيحٌ، فإن الله إنما يريد المكروه لمن يستحقه.

ومنه قوله: {فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً} [الرعد: ٤٢] وقد فُسِّرَ ذلك بالقدرة على المُجَازَاة مع علم الأعمال كلِّها والإمهال.

ومن هذا النوع: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيها بِكُفْرِهم} [النساء: ١٥٥].

ومنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا


(١) ٢/ ٨١٩.
(٢) ٣/ ١٢٠١.

<<  <  ج: ص:  >  >>