للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ذلك تأويل الزمخشري رحمه الله لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: ٤٤]، فإنه أولها بما معناه (١): وإن من شيء إلاَّ يدل على أن الله يستحق التسبيح، ولكن إذا رأيتم هذه الأشياء لم تفقهوا ما فيها من الدِّلالة على استحقاقه للتسبيح، هذا معنى كلامه، وقد قدمت ما فيه من النظر، لأنه لا ملجىء إليه مع ما فيه من البعد.

فأمَّا غير الزمخشري رحمه الله من المفسرين على أساليب أهل الكلام، فلهم تأويلاتٌ بعيدةٌ، وفي " تهذيب " (٢) الحاكم رحمه الله كثيرٌ من هذه الأشياء، منها في تفسير: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: ٢٧ - ٢٨]، فإن الحاكم رحمه الله أنكر صحة عودهم إلى ما نهوا عنه بعد مشاهدة القيامة وأهوالها، وتأول الآية على أن المراد: إذا رُدُّوا إلى الدنيا كما يُرَدُّ من النوم إلى اليقظة، قال: فأما بعد المعاينة والعلم الضروري، فلا يجوز الرد إلى حال التكليف، للإلجاء الحاصل. هذا لفظه.

والعجب كيف يستغرب أن تحمل الآية على أنهم لو رُدُّوا كالرد من النوم إلى اليقظة، لعادوا لما نهوا عنه، والله قد نص على أنهم إنما تمنوا الرد لما وُقِفُوا على النار، وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل: وكذَّبهم الله في قوله في تلك الحال: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ}، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه}، وأكَّد ذلك بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}.

وإذا كان هذا التأويل قريباً، فنحن لا نتأول تلك الأحاديث بأبعد من هذا، وان كان بعيداً، ولا ننكر على صاحبه فما بال تلك الأحاديث اختصت بالإنكار.


(١) " الكشاف " ٢/ ٤٥١.
(٢) هو الحاكم الجشمي، وقد تقدمت ترجمته ١/ ٢٩٦ و٢/ ٣٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>