للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما ولي ابن عبدون القضاء طلب يحيى، وأخافه حتى توارى عنه، وخرج الى سوسة، فاختفى بها. ويقال إنه خرج ليلاً متنكراً فمرّ على دور بعض أهل العراق، وبها مشتعل، فخاف أن يروه. فوقف. فإذا بريح قد أطفأته. فجاز. فبعث ابن عبدون كتاباً الى عبد الله بن هارون الكوفي، يقول فيه صح عندي، أن ابن عمر، متوارٍ بتونس، فاطلبه وأوثقه، وابعث به إليّ. قال محمد بن عمر أخوه. فوجّه الكوفي إليّ وعرض عليّ الكتاب، فقرأته واربدّ وجهي، فقال: لا يسوء ظنك. فلم أبعث فيك لمكروه. ولكن لأعجبك من ابن عبدون، أن يريد مني أني آتي الى إمام من أئمة المسلمين، فأرسله إليه ليمتهنه. إن كان أخوك بهذا البلد، فهو من أهل هؤلاء العزّل. قال أبو العرب: وذهل آخر عمره. وتوفي رحمه الله تعالى بسوسة في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين وسنّه سبعون سنة. مولده بالأندلس. سنة ثلاث عشرة ومائتين ورثاه سعدون الروحي بقصيدة أولها:

عين ألمّ بها وجدٌ ولم تنم ... تبكي بدمع كنظم الدر منسجم

يا موت أثكلتنا يحيى وكان لنا ... في بلدة الغرب مثل البدر في الظلم

ما كان إلا سراجاً يستضاء به ... في العلم يسمع منه العلم في الحكم

وكان يحيى إذ أخفنا لنا حرماً ... يلجى إليه فقد صرنا بلا حرم

وكان يحيى لنا سيفاً نعزّ به ... الدين الحنيف ويحمي كل مهتضم

وكان يحيى لنا في الزائغين إذا ... ضلّوا لساناً يبين الحق عن أمم

لتبك يحيى عيون بالدموع فإن ... غاضت مدامعها فلتبكه بدم

ما كان أشجعه ما كان أورعه ... ما كان أفصحه في محفل الكلم

ما كان أفقهه ما كان أعلمه ... ما كان أحماه عند الخوف للحرم

ما كان أرغبه في سنة درست ... يشيد بها بناء الحاذق الفهم

ما كان أطهر تلك النفس من ريب ... ما كان أكتب تلك الكف بالقلم

<<  <  ج: ص:  >  >>