للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثانية فنحاه عن منصبه لأنه رفض الزواج منها لأسباب لم عرفها فيها رداً غير جميل. ولما نحي عن منصبه تزوج بفتاة من أهل الصور رزق منها لبنة. وكان جدي هذا مشهوراً بجبروته وأنه من الرؤساء البغاة. بيد أني لم ينقل لي شيء عن قسوته ولا عن عقوباته المعتادة في عهده وأظن أن ذلك كان يقع منه على التحقيق لكنه لم يجسر أحد من حاشيته وفلاحيه أن يطلعني على ذلك مع إلحاحي في السؤال وذلك تشريفاً لقدره وإعظاماً لحكمته فلم أكن اسمع عنه غير عبارات الثناء على بعد غوره وسداد نظره واعتداده بفلاحيه وخدامه على كثرتهم. وقد أسس بناية عظيمة لخدمته وكان لا يقصر عنايته على إطعامهم فقط بل يعنى بكسوتهم أحسن كسوة وبإدخال السرور على قلوبهم وكان يقيم لهم الألعاب المختلفة في أيام الأعياد والمواسم. وكان من أتباعه وخاصته آمنين بما له من النفوذ من ظلم الظالمين من الحاكمين فمن ثم كان جدي في جميع أعماله يميل إلى المتانة والراحة والإحسان والظرف يعشق الطرب والموسيقى ويجلس إلى سماعها من والدتي في أماكن أعدها لذلك في حديقة الدار.

لا أتذكر والدتي قط فقد كنت ابن سنة ونصف لما قضت نحبها فإنا لا أتمثلها أصلاً ولا أعرف شيئاً يدلني على جسم إنسان بل أعرفها بالروح وكل ما بلغني من أمرها كان حسناً جميلا. سألت أهلي عنها فحدثوني بأطيب الحديث لا لكونها أمي بل لإنه كان فيها من صفات عالية من الخير والإحسان. وكنت أجدني في طفولتي بين ظهراني قوم حفهم الصلاح والفضل أرى ذلك خاصة فيهم من والدي إلى سائق العجلة كما يرى أصفياء القلوب غالياً كل حسن في الناس ولا تتمثل لهم إلا الصفات الطاهرة. وعندي أن ما تمثل لي فيمن نشأت بينهم من الصفات كان إلى الصحة أقرب. ولذلك أعجبت به في صغري.

لم تكن والدتي من الجمال بحيث تسبي الألباب بل على جانب من الذكاء بالنسبة لعصرها فكانت تحسن الروسية قراءة وكتابة خلافاً لمعاصراتها إذ ذاك وتعرف الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية ولها ميل إلى الفنون وتجيد الضرب على البيانو. ولقد ذكر لي عشيرتها بأنها كانت تحسن إلقاء الحكايات فتستدعي إعجاب الحضور وترتجل الكلام ارتجالا وكانت تمتاز بكظم غيظها على ما روى لي الخدام. فإذا عرض لها ما يهيجها يحمر وجهها وربما بكت على ما نقلت لي وصيفتها ولكنها ما قط فاهت بكلمة قبيحة إذ أنها لم