وأي شيءٍ أعجب مما كان عليه ابن القرون الوسطى أمام مجموع حوادث ما زالت ضيقة المضطرب علمته العادة أن يميز فيها بعض النظام فجزم من تلقاء نفسه بوجود عالم المعجزات والخوارق وبأنه فسيح المدى غير خاضع للنواميس الطبيعية على قربه منا وفي مكنته أن يفرط كل حين السلسة القانونية من هذه الظواهر. وأي شيءٍ أعجب من حال ابن القرون الوسطى وقد فقد الحلم الحسي المنظم فكان من قلة اختباره أن أثر فيه كل التأثير ما ورثه من الحكمة التقليدية. وأي شيءٍ أعجب من مذهب قائم على الاعتقاد بالخوارق ومؤسس على سلطة تقليد قديم يستولى على العقول وتلزم به الأذهان والأرادات بقوة لا تغالب. أما العقل الحديث فيختلف عن ذلك كل الاختلاف.
وذلك أن العقول كانت في القرون الوسطى تذل برضاها أمام سلطة التقاليد وتعترف في كل مكان بالخوارق وبتأثيرات السحر والتنجيم والأمور الغيبية المطلقة التي تشير إلى أن هناك قوى سامية في عالم الكون والفساد.
غير أن العقل الحديث غدا أكثر استقلالاً وامتد فضاءُ التعقل في الإنسانية أيما امتداد وأخذت تجاربه الكثيرة تنظم وصار لها قانون تكثر به وتزيد وانتشر العلم والميل العلمي على موازاة ذلك.
وحل بالتدريج الاعتقاد بالمقدور محل الاعتقاد بما فوق الطبيعة وقام البرهان بالاستدلال المسدد مقام البرهان بالقياس. وانتظمت إذ ذاك معرفة العالم معرفة مبنية على العقل والتجارب التي ما زالت تكثر وتتم ولاسيما في خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
فألقت الرياضيات الميكانيكة في خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بما قام به من الاكتشافات العظيمة كل من (سيمون ستيفن) و (غاليلة) و (نيوتن) و (ديكارت) و (لايبنز) و (أولر) و (لابلاس) وخرجت العلوم التجربية أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر من دور الشك والحيرة وبدأ تاريخ الكيمياء الحديث بلا فوازيه كما بدأ علم الكهرباء بكالفإني وفولتا. وفي خلال القرن التاسع عشر نضجت المواد واتسعت الآراء في المجموع الميكانيكي في العالم وعرف العقل الإنساني تصور جميع العوامل الطبيعية في الوجود والأعمال الميكانيكة والحرارة والصوت والكهربائية كانها مرادفات كثيرة مختلفة ترجع إلى شيءٍ واحد وأنها قوة سياسية تظهر متحدة الذات والمعنى بنفسها في جميع الظواهر الطبيعية.