للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

السلطة على الممالك القديمة وفي جملتها بقايا مملكة الرومان الشرقية. ولما تمكن لهم السلطان في الأرض واختلطوا بأهل الحضارة والترف من أمم المشرق غلبوا على أخلاقهم وأسرعت عدوى الفساد إليهم فلم يلبثوا إلا جيلاً أو بعض جيل حتى أخلدوا إلى الراحة ونسوا حظاً مما ذكروا به وحملوه من دعوة الخير والإرشاد إلى الأمم فانحطت أخلاقهم وزالت سطوتهم، وذهبت مع الذاهبين دولتهم.

يظن بعضهم أن ما منيت به مدينة الغرب لهذا العهد من فشو الفاحشة والتهتك بين أهلها هو نتيجة الإيغال في الحضارة والنزوع إلى الشهوات وأن فساد الأخلاق المؤذن بتلاشي الأمم إنما هو محصور بمثل هذه الرذائل الفاضحة وليس الأمر كذلك إذ أن هذه الرذائل وإن كانت من نتائج الحضارة ولها أثر قبيح في المجتمعات المدنية فهي بعض من كل ما ندعوه فساد الأخلاق ونراه مظنة انحطاط المشرق وأهله. إذ من المعلوم أن الأخلاق الفاضلة وأضدادها كثيرة جداً كالكرم والبخل، والعفة والشره، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة إلى غير ذلك من الملكات التي منها ما يكون بالفطرة ومنها ما يكتسب بالتربية وتولده في النفوس البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان. وضرر الكذب مثلاً إذا تفشى بين قوم أشد خطراً على حياتهم الاجتماعية من التهتك. لأن الكذب آلة كبيرة من آلات الفساد تهدم ركناً عظيماً من أركان المدنية وهو الثقة التي هي روح التجارة والصناعة في كل عصر ومصر. وكذلك الجبن مثلاً فإنه إذا استحوذ على النفوس أضعفها وانتزع ملكة الإقدام على جلائل الأعمال وحرم أربابها ثمرة الاعتماد على النفس والمجاهدة في سبيل الحياة. وهكذا يقال في كل خلق من الأخلاق الفاسدة كمال يقال بالعكس في الأخلاق الفاضلة. ومن أطلق على الشر نظر المتأمل ورأى ما تفشى بين أقوامه من ضعف النفوس، ووهن العزائم، وفقد الثقة والأمانة، والنميمة، والرياء، والكبرياء الباطلة، والعيشة الخاملة، والرضا بالقديم، ومعاداة العلم وغير ذلك من الأخلاق السافلة التي قضت بالشقاء على المشرق وأهله علم أن ما أصاب مدنية المغرب من الاستهتار وشيوع الفاحشة ليس بشيء في جانب ما يرى ثمة من الثقة المتبادلة، والأمانة في المعاملة، والاعتماد على النفس في معترك الحياة، والنزوع إلى المزيد من القوة والعلم والثروة، وحب الحرية، والصدق في العمل والقول، والبعد عن المداهنة والرياء، خصوصاً للقادة والزعماء، وغير