إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئاً لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس رجونا أن يكون ذلك فيهم موجوداً. وقد أزرى بأهل العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرا الولاة وأن أعوانهم من أهل أمصارهم (كذلك) فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب مما دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيث ما وقعوا في صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يُعرفوا وينتفع بهم وإن كان صاحب السلطان لمن لم يعرف الناس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم ولم يستثبت في استقصائهم فزالت الأمور عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام غير أن أهل النقص هم أشد تصنعاً وأحلى السنة وأرفق تلطفاً للوزراء أو تمحلاً لأن يثني عليهم من وراء وراء. فإذا آثر الوالي أن يستخلص رجلاً واحداً ممن ليس لذلك أهلاً دعا إلى نفسه جميع ذلك الشرح وطمعوا فيه واجترأوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم.
ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ حد اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكون. ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيد
يهم والاستخفاف ممن سواهم فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي