وغيرها من العلوم التي اعتاد أهل ذلك العصر عصر النور أن يقرؤوها لأهل الكتاب ولا يمنعوهم منها. فليس في هذا شيء من الغرابة وإنما الغريب أنه مع كونه معدوداً من الفقهاء والمفسرين كان كما رواه ابن خلكان وهو حجة ثقة يجيء إليه أهل الذمة من اليهو
والنصارى ويقرؤون عليه التوراة والإنجيل وقد شرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. ولو وقع مثل هذا في عصرنا لعد غريباً جداً. وممن قرأ عليه الحكيم تاذري الإنطاكي اليعقوبي الذي أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين بن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليدس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث فيها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للإمبرور ملك الفرنج وهو (فريدريكوس الثاني) فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه مدينة بأعمالها. فلم صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله فلم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن مكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكة. فبينا هم سائرون إذ هبت ريح رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله.
وممن جرى على هذا النحو العلامة برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥ فإنه فسر القرآن في كتاب له اسمه نظم الدرر في تناسب الآي والسور وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه أسرار القرآن ما تحار فيه العقول وهو محفوظ بالمكتبة الخديوية وفي كثير من مكاتب القسطنطينية ولكي يكون هذا المفسر المحقق على بصيرة من أمره استمد كثيراً من الأمور والبيانات من التوراة والإنجيل وقد أشار في أوله إلى التوراة التي اعتمد عليها فقال ما نصه: واعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم