ولما كان أنشئ بالشيء يذكر فلا أرى بأساً من أن أذكر لكم بمناسبة هذا المسلم المسمى بموفق الدين رجلين يسمى كلاهما بالشيخ موفق الدين أحدهما إسرائيلي والثاني نصراني.
فأما الأول: فهو الشيخ الموفق شمس الرئاسة أبو العشائر هبة الله بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن جميع الإسرائيلي المصري. نشأ بفسطاط مصر وانقطع لإتقان العلوم وتفرغ لصناعة الطب وألف فيها كتباً نفيسة مفيدة. كان جالساً يوماً في دكانه بالفسطاط وقد مرت عليه جنازة. فلما نظر إليها صاح بأهل الميت وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنونه حياً. فبهت القوم من قوله وتعجبوا من أمره ولم يصدقوه في خبره ثم أن بعضهم قال لبعض: هذا الذي يقوله ما يضرنا أننا نمتحنه؟ فإن كان حقاً فهذا الذي نريده. وإن لم يكن حقاً فهو الذي يريده الورثة فأمرهم بالمسير إلى البيت وحمله إلى الحمام بعد نزع الأكفان ثم سكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه ونطله بنطولات (أي رش عليه سوائل وكمده بالمكمدات) فعطس الميت فرأوا فيه أدنى حس وتحرك حركة خفيفة فقال ابن جميع: أبشروا بعافيته. ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح. ثم أنه سئل بعد ذلك عن هذه الكرامة: من أين علمت أن الروح لا تزال فيه وهو محمول وعليه الأكفان. فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى تكون منبسطة فحدست أنه حي وكان حدسي صائباً. ومن ذلك الوقت اشتهر بجودة الصناعة والعلم فأقبل عليه الناس للتحصيل فكان له مثل ذلك الموفق المسلم مجلس عام يحضره المشتغلون بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود. وكان في مجلسه هذا لا يفارقه كتاب الصحاح فلا تمر كلمة لا يعرفها حق المعروفة إلا ويكشفها منه ويعتمد على ما أورده الجوهري. فبرع حتى صار من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين والأكابر الذين يشار إليهم بالبنان. وأقبلت عليه الدنيا بهذين السببين حتى تقدم في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده جليل القدر نافذ الأمر عالي الهمة. ولما كان الشعراء هم الغاوين قد دبت عقارب الحسد إلى شاعر اسمه ابن المنجم المصري. وكان مشهوراً خبيث اللسان فانبرى يهجوه بكل قبيح فمن ذلك قوله فيه: