القلب قبل وصول جلته إلى السمع. وليكن كلامك سليماً من التكلف بريئاً من التعسف. وليحظ لفظك بمعناك وتشتمل عبارتك على مغزاك. واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه فإن البلاغة لمحة دالة. وقيل سرعة جواب في صواب. وقيل أن تقول فلا تبطئ وأن تصيب فلا تخطئ. والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق وأسهلها. والعي إكثار من مهذار وأخطء بعد إبطاء كما جاء في في المثل سكت ألفاً ونطق خلفاً وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانية. وقيل في آخر: كان إن أخذ شبراً كفاه وإن أخذ طوماراً أملاه. واستعمل التطويل في مكانه والتقصير في مكانه فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً كان التطويل عياً وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً. وإياك أن تفرط فإن فرطت قصرت أو تفرط فإن أفرطت كثرت وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت وجيزة ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد
وطوراً بإيجاز تبث لذي حجى ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد
وفي الجملة مهما كان الإيجاز كافياً والمعنى به واضحاً فالإحاطة إن لم تكن عياً كانت عبأ ولم يزل إجلاء المتقدمين يحمدون ذلك ويذمون ما سواه ويدل على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى. ويصعد فيه نظره ويصوبه وقال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلي وقال: يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه مني فقلت: نعم وقى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف فقال: إنه لا مكروه في الكتاب ولكن قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله بقوله في البلاغة فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى. وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إليّ وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا قال: فقرأته فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند حُزنت أرزاقهم وانقياد كافة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتأثت معه أمورهم. قال: فلما قرأه قال لي: يا