واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم رائقة وفصولهم متقابلة وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
ولا تجعل كل الكلام عالياً شريفاً ولا وضيعاً نازلاً بل فصله تفصيل العقود فإن العقد إذا كان كله نفيساً لا يظهر حسن فرائده ولا يبين كمال واسطته. وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع صفات البلاغة الثلاث ليظهر فضل كل طبقة في بابها ويبين محكم أسبابها ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها تعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء ويربي عليها فإن الكلام إذا كان منوعاً افتتنا الأسماع فيه ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه.
واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواح. فإذا قويت الألفاظ فق المعاني وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام وتتناسب في الإفهام. واقصد القوافي السهلة المستحسنة دون المستصعبة المستهجنة والأوزان المستعملة الحلوة دون المهجورة الكزة فإن الشعر كالجواد والقوافي حوافره والألفاظ صورته والمعاني سرعته والأوزان جملته.
واجعل كلامك كله كالتوقيعات وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل وفي المحاسن أرشق وأجول وبالأسماع أعلق وبالأفواه أعبق. وإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت أو معظمها وغير القافية والوزن وزد في معناه وانقص من لفظه واحترس مما طعن عليه به لتكون أملك له من قائله وإذا تقربت الديار تقاربت الأفكار. ولهذا قيل الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر.
واعلم أن من الناس في شعره في البديهة أبدع منه في الروية ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع وإذا كاتب قصر. ومنهم ن بضد ذلك. ومن قوي نظمه ضعف نثره ومن قوي نثره ضعف نظمه وقلما يتساويان. وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره ولهذا قيل أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب وعنترة إذا كلب والأعشى إذا طرب.
وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب واستعمال اللفظ الوحشي فإن خير الكلام ما سبق معناه