تؤلف كلاماً وقت الضجر فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا عُنف عليها نزحت. واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق ولمعة الطرف إن لم تقيد شردت وندّت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه قال الشاعر:
تغنَّ بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار
وقد يكلُّ الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر عليَّ الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً فإن كان كذلك فأتركه حتى يجيئك عفواً وينقاد إليك طوعاً. وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ واعمل في أحب الأغراض إليك وفيما وافق طبعك والنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطي على الرهبة. واعمل الأبيات متفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر ثم انظمها في الآخر واحترس عند جمعها من عدم الترتيب. وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك آخذاً بعضه بأعناق بعض فهو أكمل لجنسه وأمتن لرصفه. واجعل المبدأ والمخلص والمقطع فإن ذلك أصعب ما في القصيد. واجتهد في تجويد هذه المواضع وتجنب معاريض أرباب الخواطر وتعاودهم عليها وميز في فكرك محط الرسالة ومصب القصيدة قبل العمل فإن ذلك سهل عليك واستعدها أولاً ونقحها ثانياً وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر.
فقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين وينقحها في شهرين اقتداء بزهير فإنه كان راويته. وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل حتى قيل لشعره المنقح الحولي أو الحولي المحلى. واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً. ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله فتظهر عليه الكلفة ويبين فيه أثر المشقة وتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني واجتهد في تقويم المباني فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان وإن عسر ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه وتباينت في التقفية مقاطعه فقد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام