وبذلك استبان أن مجال التاريخ هو (ساحة التبدل الاختياري) ليس إلا. وإن للنوع البشري قوة إرادة وإن اختلفت قوة وضعفاً لا تكون فيما هو عامل فيه من النواميس العامة بل في غير ذلك من حركاته وسكناته. من أجل ذلك ترى هذا النوع معرضاً للبحث التاريخي من حيث علم أجناس البشر والبحث العلمي من حيث علم النفس.
هذا يبحث في الإنسان من حيث العوامل الناشئة عن القوانين العامة المنقاد لها وذاك يشتغل بفحص ما في حركاته الاختيارية من الأسباب المتحولة من السباب المتغيرة ونتائجها ويظهر لنا ما قرب إلى التوفيق من هذه الحركات وما لم يقرب وما كان مصيباً منها وما كان مخطئاً وهو يضبط الروابط الموجودة بين هذه الحركات كلها.
كانت الأمم فيما مضى تجل التاريخ وتعظمه حتى فتحت لتقدمه السبل وأزالت من طريق رقيه الموانع قال شيشرون الخطيب الروماني الشهير التاريخ شاهد الأزمنة ونور الحقيقة وحياة الذكرى وحاكم العمر وبريد القرون وكان هذا الخطيب ينظر إلى التاريخ بأنه ظهير الفلسفة وأنه مدرسة الفضيلة.
وكان يعد التاريخ منهجاً من مناهج البيان وقسماً من أقسام الفصاحة لعظمة الدروس التي ألقاها التاريخ وفخامة موقعها ولطالما قال: لا خطيب أكثر عظمة وأوفر احتشاماً من التاريخ.
بمثل كلمات شيشرون هذه انتشر بين أهل العلم في العصور الموغلة في القدم أن التاريخ محل البلاغة وأدخله تلاميذ أيزوقراط في عداد العلوم التي يجب على الخطيب أن يعنى بها فكان بذلك ركناً للأدب.
كان الأقدمون من المؤرخين يتعمدون في التاريخ إجادة البيان من جهة والمحافظة على الواجبات الوطنية والنتائج الأخلاقية من جهة أخرى. أما الحقائق الواقعة في نفس الأمر فقلما كان يبحث عنها فكانت مصنفاتهم إذن تزدان في نظرهم إذا خدمت الفلسفة أو ذبت عن شرف القومية والوطنية ليس إلا.
هم يسلكون في التاريخ طريقاً توصلهم إلى الذروة القصوى من الفصاحة فيفرغون أضخم كلمات المجد وأكبر ألفاظ الفخفخة كما هو الحال في نقلهم حياة الرؤساء والأمراء وأنهم