لينسبون إليهم جملاً وقطعاً ما قالوها ولن يقدروا على أن يأتوا بمثلها وأنك لترى المؤرخ منهم يفادي بالحقيقة التاريخية سعياً وراء كلمة جميلة يلذ له طنينها في أذنيه ناسياً أو متناسياً أن ما يسمى بالتاريخ هو علم الكوائن وتصوير الحقائق وأنه في حاجة قبل كل شيء على مظان صحيحة ومستندات موثوق بها وأسس راسخة فيجب من ثم على المؤرخ مهما كانت نحلته وشعوره ومقصده أن يبحث في مثل المظان من غير تطرف ولا تعصب.
وذلك لأن التطرف والتعصب والذلاقة ليست من حاجيات المؤرخ ومذهبه في شيء وإنما البلاغة والتأنق في القول من صنعة الأدباء والشعراء والمطالبة بالفضيلة من وظائف الأخلاقيين والدفاع عن شرف الوطنية والمكانة القومية من واجبات رجال السياسة فيها وما المؤرخ إلا الذي يمحص الحقيقة ويتمحض لإثباتها.
ولقد التزم فنيلون أحد فلاسفة لويس الرابع عشر أسلوب شيشرون الخطابي في كتابه مبحث الوجود الإلهي فاتخذ ذلك دليلاً على أن التاريخ كان على عهد فينلون في دور صباه ولا يكون المؤرخ مؤرخاً حتى يثبت الوقائع التي يناقش في صحتها مناقشة منطقية ويفحصها فحصاً علمياً مدققاً ببيان سلس ونثر مرسل وسليقة معتدلة.
قال المسيو باتان المشهور بمباحثه في أصحاب الملاحم من الروم المتوفى سنة ١٨٧٦: ليس التاريخ عبارة عن سرد بعض القصص وذكر الأيام المشهورة والحوادث المأثورة ولا تلفيق ما يسقط عليه الرجل عرضاً من الأقوال عن حياة المشاهير بل التاريخ هو ذلك الميدان الذي تظهر فيه الأمم بعاداتها وأخلاقها ومزاياها ومعايبها مشروحة تتجلى بكل وسائل العلم حتى كأن القارئ من أهل البلد الذي يكتب تاريخه أو من معاصري من يدون ماضي حياتهم وكذلك يجب التاريخ أن يكون. وإنك لتعلم أن مدون هذا التاريخ تعوزه المواهب النادرة والنظر البعيد وسبر غور الأمور.
لا يبحث التاريخ اليوم عن طرز معيشة الأمم والبيوت فقط بل يتجاوز ذلك إلى تعريف درجة الرقي العام في الأشياء أيضاً فإذا بحث المؤرخ في ماضي شعب يجتهد
في أن لا يجمد أمام وقائعه المهمة وحوادثه الكبيرة بل ينتقل من ذلك بغتة إلى وزن أخلاقه وعاداته ومشاربه وإلى ذكر روابطه مع سائر الأمم الأخرى. هذه المباحث هي ألياف النسيج الحيوي في الأمم المتحضرة وغير المتحضرة.