ومن هنا يتجلى للقارئ أن هذه المواد المنوعة في حاجة إلى ترتيب حسن وفكرة نافذة دقيقة وحكم عقلي متين قادر على البحث عن الأسباب المتضاربة ووضعها موضع النظر وإلى قلم بعيد عن الأغراض كأنه جلمود إذا كان سبيل لتغلب العواطف عليه ومثل هذه المزايا متوقفة على مقدار قابلية أولئك المؤرخين الذين جمعوها في نفوسهم فاستخرجوا من كتلة الحوادث المتسلسلة سديماً نقياً وأرسلوها نفثة البيان والوضوح النوراني على العالمين. وإن للتاريخ من حيث موضوعه وأصوله أقساماً عديدة أهمها انقسامه إلى عام وخاص يبحث الأول في أدوار البشر الثلاثة المعلومة ويشمل تاريخ عامة الشعوب والدول. أما الثاني فلا يعنى إلا بأمة واحدة أو بلدة معينة أو بأسرة معروفة ووقعة مشهورة.
ويسمون التاريخ الذي يذكر الحوادث مرتبة حسب زمن حدوثها كرونولوجيا وإذا بحث في نشوء شعب واحد وانتشاره يقال له أيتنوكرافيا وإذا أفاض في كوائن الأمم كلها الحادثة في زمن معين يدعى سينكروفيا. وإذا قايس بين وقائع مختلفة ظهرت في أزمنة متباينة سمي التاريخ القياسي وإذا أظهر الأشياء في صورتها الأصلية فهو التاريخ المصور وإذا توحى إرجاع نتائج الوقائع إلى أسبابها يقال له براكماتيك وإذا ربط الأسباب بالنواميس العامة في البشر والطبيعة يسمى التاريخ الفلسفي وهكذا تختلف أسماء المصنفات التاريخية باختلاف موضوعها فتسمى تقويماً ومذكرة وترجمة حال وما أشبه.
ولا نقصد هنا إلى أن نطيل القول فنكتب تاريخ التاريخ. على أننا لو بحثنا في مبدأ التاريخ لوجدناه ممزوجاً بالشعر كما هو الحال في جميع أنواع الأدبيات المنثورة فابتداء التاريخ إذن هو الملاحم التي هي من أنواع الشعر وذلك هو ابتداؤه في الأدوار القديمة عند الهنود واللاتين والفرس ولم يتجرد كثيراً عن هذه الكسوة القصصية عند بعض أمم المشرق إلى يوم الناس هذا لأن التاريخ لم ينسلخ عن منظومات الملاحم عندهم إلا قليلاً وأن ذبالة التاريخ الحقيقي لم تكد تضيء عندهم حتى أطفئت وكذلك هيرودتس وتوسيديدس وكسنوفون كلهم لم ينجوا من دس الأساطير بين طيات الحقائق التاريخية في كتبهم الثمينة وإن كانوا كلهم استحقوا لقب المؤرخ. الأول بذكائه النقاب والآخران بتجاربهما ومتانة بيانهما. أما دانيس داليكارناس فلا أثر للتحقيق في مصنفاته وإن كان قد تلافى هذا النقص بتتبع بعض الأخبار. وكذلك شأن تيودورس من وجه هذا النقص وما يسده وان دروس