ففي سنة ٢١٧ هجرية وقع أمران عظيمان اضطرب لهما بال المأمون ولم ير في أحد من أهله ولا من ذوي عمله الكفاءة لهما فندب نفسه وعزم على الخروج من بغداد. وذلك أن ملك الروم كتب إليه يسأله الموادعة والمهادنة وبدأ في كتابه بنفسه وكانت قد حصلت بمصر فتنة عظيمة واضطرب أمرها. فعزم المأمون على الخروج لغزو ملك الروم ولإصلاح ذات البين بمصر. فأمر بعقد الألوية السود وهي شعار بني العباس كما تعلمون (ونقول بهذه أن بني العباس كان لهم لوآان فابيض يعقدونه لمن يولونه الأعمال والحكومات وأما الأسود فهو خاص يعقدونه لولاية العهد على الخلافة) ثم أمر بجمع المسودة وهم جيوش بني العباس وشعارهم السواد.
وقبل أن أسوق إليكم الحديث عما جمعته من شوارد هذه الرحلة العجيبة أخركم يا بني أمي ويا بني عمي بأمر هو من باب تحصيل الحاصل فأنتم تعلمون جميعاً أن أهل مصر عموماً يهيمون بالبصل غراماً تستوي في ذلك الطائفتان الصغرى والكبرى، بل إن بني إسرائيل حينما هاموا في التيه ولم يجدوا عن البصل من بديل ولم يعثروا على شبيه حردوا على موسى الكليم. وبما أننا سنحضر ركاب المأمون فلا بأس من ذكر نادرة من نوادره الكثيرة في إكرامه للعلماء حتى ولو كانوا ممن يأكلون البصل والثوم ويشربون النبيذ ويقومون للحنزير الحنيذ.
فقد كان بلغه قبل ذلك أن الشيخ كلثوم بن عمرو العتابي قد توفي ثم بلغه أنه لا يزال على قيد الحياة وهو من أكابر الشعراء المرسلين وأفاضل البلغاء المطبوعين فأرسل إليه لينادمه قبل سفره حتى لا تفوته مجالسته إذا مات الرجل وهو في الغزاة أو في مصر فلما دخل عليه أدناه وقربه حتى قرب فقبل العتابي يده ثم أمره بالجلوس فجلس وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء ونادرة زمانه حاضراً فقال له المأمون: بلغتني وفاتك فساءتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال العتابي: يا أمير المؤمنين لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلاً وإنعاماً وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا يبسط لسواه أمل لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا غلا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال. فوصله صلات سنية وبلغ به التقديم والإكرام أعلى