محل. ثم أقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق فاستظرفه المأمون وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح فظن العتابي وكان شيخاً جليلاً نبيلاً أنه استخف به. فقال: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس. وهذا مثل مشهور ولكن المأمون اشتبه عليه قول الرجل فنظر إلى نديمه إسحاق مستفهماً فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم. فقال: يا غلام ألف دينار. فأتى بالذهب وصبه بين يدي الأديب. ثم أخذوا في المفاوضة والحديث وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم الموصلي عليه فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق وزاد عليه. وبقي العتابي يزداد عجبه من إسحاق حتى لم يطق صبراً. فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ فقال: نعم. فقال: يا شيخ من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل فتبسم العتابي وقال: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكر. وما كل بصل من الأسماء؟ فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم وكل ثوم من السماء؟ أو ليس البصل أطيب من الثوم. فقال كلثوم العتابي: لله درك فما أحجك! يا أمير المؤمنين ما رأيت كالشيخ قط. أتاذن لي في صلته بما وصلتني به فقد والله غلبني. فقال المأمون: بل ذلك موفر عليك فنأمر له بمثله. فقال إسحاق: أما إذا قررت بهذه فتوهمني تجدني. قال: ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق ويعرف بابن الموصلي. قال: أنا حيث ظننت فأقبل العتابي عليه بالتحية والسلام فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا قد اتفقتما على المودة فانصرفا سالمين.
وخرج المأمون من بغداد بجيوشه وجحافله حتى دخل بلاد الروم غازياً لينتقم من ملكها الذي قدم نفسه عليه في المخاطبة وهنالك تناهت إليه الأخبار باستفحال الثورة في مصر وتعاظم الخطب وتفاقم الأمر حتى خرج أهلها من مسلمين وأقباط عن طاعة الخليفة لما نابهم على السوء من ظلم عامله عليهم وهو عيس بن منصور الرافعي. فامتنع المصريون كافة عن وزن الخراج وطردوا العمال. فترك الجنود ببلاد الروم لمحاصرة القلاع وتتميم الغزوة وسأتبعه في طريقه خطوة خطوة وأذكر ما فعله ببلادنا لخير الأقباط والمسلمين وما أبقاه فيها من المآثر التي دوى ذكرها وطمس خبرها وتنوسي أمرها على أن يخرج من وادي النيل مرموقاً بالعيون مشيعاً بالقلوب محموداً من جميع الشعوب.